كان ولا يزال شعاري في المجتمع هو: “الإصلاح”، كان إصلاح ذاتي، بيئي، أسري، وحتى اجتماعي، وكما أن لكل شيء عيوبه فقد خرجت لي فرقة من الأقرباء عكس ذلك التوجه، بدعوة: «دع الخلق للخالق»، فكنت كلما حاولت إصلاح عقدة مجتمعية ردوا عليَّ: «الأقربون أولى بالمعروف» أين وردت تلك الآية القرآنية الكريمة؟ هي ليست آية، ولم ترد في القرآن الكريم! عفواً إذن هي رواية عن أهل البيت -عليهم السلام-، أليس كذلك؟ عفواً هي ليست رواية ولم ترد في كتبنا! إذن هي قول مأثور لأحد الحكماء؟ عُذراً هي ليست كذلك أيضاً!
أقول:
إنني لست قادراً على تغيير المجتمع بأكمله 100%، فالأنبياء وهم الأنبياء لم يستطيعوا ذلك، ولكن التذكير الإلهي كثير في هذا الموضع وهو موجه لنا، قبل توجيهه لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- مثل: (لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) (إنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) فهذه رسائل تربوية وأخلاقية تقول رغم كل المحاولات في الإصلاح والتغيير لن تستطيع فكل ما عليك سوى (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ).
وهذا لا يعني أن أكره وأمقت مجتمعي، وأذكر لكم قصة ليس دفاعًا عن المذنب ولكن توضيحًا للمسألة:
في إحدى الفعاليات قام أحدهم بفعلٍ محرم، فجاء لي فلان يقول لي: «إن هذه الفعالية “خيرية” ولا تُريد إلا الأنشطة الخيرية، فيجب طرد هذا الشخص»، أجبته: إنك مع الأيام سوف تجلس على منصب في البلد فلماذا هذا الأمر الذي لا معنى له؟ إن كنت ستكون مسؤولاً فأرجوك أن تتقبل المجتمع على عيوبه والخلل الموجود فيه، للتعايش معه، ولكن ليس بمعنى عدم محاولة الإصلاح، ولكن تحت مظلة تقبل الإنسان إلى المجتمع على عيوبهم.
لم يعجبه كلامي فشتمني قائلًا: (أيها السافل)، وانصرف…
إنه لمن الصعب تغيير المجتمع بين ليلة وضحاها، فالأمر يحتاج إلى عقود طويلة من الزمن، فالناس (يسيرون) حسب ما يراه عقلهم وفكرهم ومنطقهم، فنبي الله نوح -عليه السلام- وهو شيخ الأنبياء قد جلس 950 سنة يدعوهم، لكنهم لم يتغيروا بسبب أنفسهم، فالله يقول: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) فمتى ما تغيرت النفس وتقبلت “الإصلاح” وصلت لمرتبة النفس المطمئنة.
ولعل الكثير سألني: مسلم ماذا تطمح في تخصصك الجامعي؛ فأجيب بعلم النفس، لأن الفقر يتناسب تناسباً طردياً مع الأمراض النفسية فيدمر أغلى ما يملك الإنسان وهو العقل فبتدمر العقل تتدمر أجيالٌ وأجيال وبالتالي تختفي المجتمعات، فبالتأكيد إن أنسب أمر لمخاطبة الأنفس هو العلم الأساسي لها ومعرفة التركيبة التي خلقها الله إياها، ومن ثم بإمكانك بدء عملية الإصلاح، ولكن كم من حملة وحرب خرجت على أشخاص لم يريدوا سوى الإصلاح، ولكن شوه صورهم الاعلام القصير في الفيسبوك، تويتر، إنستغرام، كما كان قبل 1400 عام بالضبط، في زمن أمير المؤمنين حيث طلب منهم قائلًا: «… أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد» ولكن ما كانت نتيجة الضغط الإعلامي سوى؟ وهل كان علي يصلي؟!!
هذه كانت مفاجأة أهل الشام، بخبر استشهاد عليّ أثناء إقامته للصلاة، فنحن إذا أردنا ان نكون مصلحين علينا أن نكون أولاً صالحين، كيف ولا وإن الإمام الحسين -عليه السلام- سبب خروجه لمعركة كربلاء تلخصت في مقولة: «إنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي»، حقًا إنني لست ضد الشعائر الحسينية أو ضد البكاء على الأئمة -عليهم السلام-، فالبكاء فيه الأجر العظيم.
والكثيرون يبكون عليهم وأنا منهم، ولكن لماذا نبكي لضرب هامة أمير المؤمنين -عليه السلام-؟ أو قطع رأس الإمام الحسين-عليه السلام-؟
هذا أمر لا أحد يذكره، فالسبب الأساسي لقتلهم ومقتلهم إماماً بعد إمام، بين مقتول ومسوم، كله كان لمصلحتنا وذلك لصالحنا، وأنا أقول إنني من المستحيل أن أطلب شفاعة أهل البيت -عليهم السلام- وأنا لم أسر على نهجهم في التربية، والتزكية، وإصلاح النفس، فلا يصح أن أجلس في المأتم أو الحسينية وأنادي واحسيناه! وامظلوماه!
والأسس الأساسية في التربية مثل: الصلاة، وتهذيب النفس، وغيرها كلها أمور وكأنها لا نفع لها، فهي أس القيم، أس المبادئ، أس الدين.. وإن كان كذلك فانا أسخر من نفسي، فحدث العاقل بما لا يعقل فان صدق فلا عقل له.
لعلني بل وربما جميع سنوات عملي التطوعي من هذا المنظور لم تتجاوز 5% من إنجاز، فقد غفلت عن جملة ترددت على مسامعي وأنا صغير وهي: «إن الصالح هو المصلح»، لا أقول إنني وصلت لدرجة الكمال فالكمال لله سبحانه، ولكنني أدعو في كل صلاة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، حقًا وجدت أناساً صالحين ولكنهم لا يتقبلون فكرة الإصلاح، بل يرون أن تكليفهم فقط هو إصلاح ذاتهم وتهذيب أنفسهم والسلام.
فأغلب الناس يحبون “الصالحين” ويكرهون “المصلحين”، ولذلك أحب أهل مكة رسول الله قبل بعثته لأنه “صالح”، وعندما بعث برسالته طالباً إصلاحهم أصبح “مصلح”، فوصف بالساحر، والكاذب، والمجنون، والسبب مثل ما ذكرنا أن الصالح ينشغل في تربية وتزكية نفسه، وأما المصلح فهمه أكبر من ذلك، فيكون معاكساً لهم في أهوائهم فيصبح صدام بينهم، فيقول أحد العلماء: «مصلحٌ واحد أحب إلى الله من ١٠٠٠ صالح، لأنه المصلح يحمي الله به أمة كاملة، وأما الصالح فيكتفي بحماية نفسه فقط» ويقول الله تعالى: (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون).
قد ذكرت سابقًا في مقالة “الأسبوع الثالث: منطقي” أسباب قراءتي للكتب الأجنبية، وأذكر لكم شيئاً من حياتي الواقعية:
جلست في أحد أيام الحجر المنزلي مع العم -وهو شيخ دين- وبقية أعمامي ووالدي، فسألته سؤالًا: «عمي هل جميع المصلحين ومغيري المجتمعات محصورين فقط على شريحة علماء الدين؟».
أجابني بجواب طويل إلا أنني سأخبرك ببعضه إذ قال: «حقًا إن أغلب المصلحين سابقًا كانوا من علماء الدين، في لبنان، والعراق، بل وحتى في السعودية، ولكن العملية الآن اختلفت، فمن يريد أن يصلح المجتمع فعليه بـ (التفكر) فالرصاصة لا تقتل فكراً، فإذا كان الطرف الآخر يفسد مجتمعنا بقنوات التلفاز فعلينا أيضاً الإصلاح عن طريق قنوات التلفاز، وهكذا نكون على نفس الأسلوب ولكن ليس بنفس الفكرة، فتلك حقيقة يتغاضى عنها الكثيرون، ولهذا يجب مواجهة العدو بسلاحه هو وذلك كي يحدث توازن بين القوى».
وأردف: «إنهم هناك يستغلون الأشخاص الموهوبين، لصناعة مجتمعاتهم وتنميتها، فإذا وجدوا شخصاً فلانياً بارعاً في أمرٍ ما، يتسارعون بتأهيله وتدعيم نقاط قوته؛ لوصوله إلى أعلى المناصب والتحكم في أمصار الناس وبشكلٍ سلبي وذلك في فسادهم بدلاً من إصلاحهم، فإذا ضاع إرث وبصمة مجتمعنا، وصار لدينا غزو فكري، بأن ذلك يعد تخلفاً، إذاً فلنعلم أن من غزانا قوي ونحن مجتمع ضعيف، فكما يقال: «الضعيف يقلد القوي».
خلاصة كلامي:
البدء بإصلاح الأخلاق فإنها أول الطريق، فإذا أصبحت صالحاً تتمكن أن تكون مصلحاً، على أن تتقبل المجتمع بعيوبه، فالسراج الذي لا يضيء قربه كيف يضيء بعيده؟