الفضاء الخاص وانكفاء الفرد وعلاقته بالإبداع والتفوق

الفضاء مصطلح يشير إلى الحيز الذي يشغله الفرد، سواء كان ماديًا فيزيائيًًا أم معنويًا ثقافيًا، وحديثنا عن الثقافي تحديدًا وعلاقته بالمحيط الكلي وتفاعله معه؛ من أجل فهم أفضل لتشكله وتكوينه وسيرورته ضمن الأبعاد المختلفة التي يتفاعل معها وينفعل بشأنها.

كما أن للكلمة محيطًا خاصًا، هو الجملة، فكذلك للإنسان محيط خاص، هو القبيلة أو العائلة، وهذه القبيلة محيط عام للفرد، ولكنها فضاء صغير ضمن شعب أو أمة، والأمة كذلك فضاء فرعي أو خاص ضمن فضاء أعم، هو الإنسانية، فحين يتم الحديث عن الفضاء ينبغي أخذ هذه التدرجات والتعرجات بعين الاعتبار.

والمبدع في بيئته وبين أقرانه فضاء خاص وعام، خاص لنفسه، وعام أمام السوق الثقافية، وهو يتعامل معها بحسب ما تعارف وتآلف ولا يُسمح بخروجه عن المألوف وإلا سيعد مارقًا، اللهم إلا إذا كان مبدعًا استثنائيًا وهم قلة، فالسوق لا يرتضي البضاعة الجديدة إلا بعد تجربتها والتأكد من جودتها.

فمهما قدم المبدع من إنتاج سيظل زمنًا معروضًا لدى الباعة (باعة الكتب) حتى يتم التأكد من جودة المنتج، ومن ثم سيعتاد مرتادو هذه السوق على البضاعة الجديدة ويدركون أهميتها. هذا قانون عام، وإنساني، ولا يمكن الخروج عليه، إلا في حالات استثنائية كما أسلفنا.

ومن ضمن الفضاء الخاص بمعناه الفردي والأممي، هو البقاء داخل جماعة من الجماعات، والانتماء إلى واحد من الاتجاهات، وإن استلزم ذلك الالتزام بتقاليد الكتابة، وأعراف التدوين كما هو شأن المثقفين اليوم داخل الوطن العربي وفي كل قطر من أقطاره.

حيث يتم التفاعل مع المبدع على أساس تكوينه وانتمائه، ويتم الاهتمام به بحسب جودة منتجه وكتابته، ويُعطى مكانة بحسب مشاركاته والتزاماته وحضوره الجماهيري، وهنا يكون هذا الفضاء هو الدافع لنشر ما يكتب وترويج ما يريد من أفكار، أليست هذه هي حال العرب اليوم؟

فالبداية والانطلاق من الفضاء الخاص نحو الفضاء العام، إذ الاعتراف يأتي أولًا من الداخل، ثم من الخارج، وعادة لا يسبق الخارجُ الداخلَ إلا في حالات الترجمة (العروي) أو الغربة (جبران) أو القِدم (ألف ليلة وليلة)، فهناك التفاعل مع الفضاء العام يسبق التفاعل داخل الفضاء الخاص.

أمر مربك أن يأتي مبدع وموهوب من الخارج ويكتشف ثقافة وإنتاجًا متفوقًا يتجاوز ما لدى بيئته وفضائه، كما حصل مع عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) حين قدِمت منطقة القطيف، واطلعت على نتاج أدبائها، فأشادت بما وجدت من تفوق وتميز.

قد يظن البعض أن إطلاق أحكام التفوق هو غرق في الفضاء الآخر، كلا، بل العكس هو الصحيح، حيث يجوس المبدع القادم من الخارج إبداع البيئة التي انتقل إليها فيكتشف تميزها ثم يتحدث عنها مقارنًا بينها وبين إبداع بيئته الأصلية، ومن هنا منشأ الاحتفاء بمثل هذه الكتابات.

فألف ليلة وليلة ظلت طي النسيان ضمن الفضاء العربي (الخاص) وحين أشاد بها كتاب أوروبا (العام) استلهم العرب هذه الإشادة واعتنوا بالكتاب وأعطوه ما يستحق من الرعاية والاهتمام، وهذا لا يعني أن الكتاب ليس بتلك القيمة، بل العين القريبة والناقدة لم تدرك أهميته إلا بعد أن رأته العين الخارجية والبعيدة.

ويمكن القول مثل ذلك عن مؤلفات جبران التي احتفى بها الغرب وتناقلوها لدرجة أن كتاب (النبي) أصبح الأكثر مبيعًا بعد الكتاب المقدس، فالاحتفاء الخارجي سبق الاحتفاء الداخلي، ومهد الطريق له كي يأخذ مكانته التي يستحقها، وكذلك ينطبق القول على عبد الله العروي وكثير غيره، ولعل آخرهم جوخة الحارثي صاحبة رواية (سيدات القمر) التي حازت جائزة البوكر العالمية وبعدها اشتهرت بين أدباء الوطن العربي.

الأحكام التي يطلقها بعض من ينتمون إلى ثقافتنا وبيئتنا، ومحاولتهم التهوين من إنتاج أديب أو مبدع، أو فئة أو منطقة ما هي إلا جلد للذات نتيجة العمى الذي أصابهم، أو التعامي عن إمكانية وجود إبداع مختلف ومتميز، فالتعامي بالنهاية سببه الانبهار بالآخر، ومعاملته على أساس أنه وحده الأفضل أما الباقي فلا يستحق (عقدة النقص).

لا أظن أن ناقدًا جديرًا بحمل هذا اللقب سيذعن لأدب بعيد عن بيئته إلا إذا كان لهذا الأدب قيمة كبرى ومضمون متميز، وهو ما لا نجده في مقولات البعض، ممن يمارسون جلدًا قاسيًا للذات الداخلية، ولفضائها الخاص، ويتناسون ما أثير حول هذا الإنتاج من مديح.

مثل هكذا ناقد لا يستطيع الرؤية جيدًا، ولذا لن يتمكن من التصنيف الدقيق لمنجزات بيئته، واكتشاف فضائها الخاص الذي يختلف عن الفضاء العام، فالمسألة كما طرحتها منذ البداية، هي دوائر مختلفة ومتقاطعة، ولكل دائرة ميزات لا تتوفر في غيرها، فحاول أيها الناقد الابتعاد قليلًا عن الواقع الذي تعيش داخله كي ترى من عدة أبعاد، وليس بعدًا واحدًا كما هو الآن.

أعتقد أن نقادنا العرب حينما اتجهوا للدراسة والنهل العلمي من الغرب أعادوا اكتشاف ذواتهم وإبداع بيئاتهم، وانطلقوا من الخارج والعام للوصول إلى الداخل والخاص، وبهذا استطاعوا رؤية الأمور بتجرد تام، ومن ثم حكموا على المواهب والإبداعات بما يليق بها وتستحق، ففي النهاية كل فضاء يختلف عن الآخر، ويمتلك ميزات لا تشبه الفضاءات الأخرى، إذن: فلنفخر بثقافتنا وفضائنا، ولنهتم بمبدعينا وموهوبينا، وسنشاهد أثر ذلك على سيرورة العملية الثقافية وكيفية نموها وصعودها.


error: المحتوي محمي