الحسينُ تحت شمس عرفات

في ميسرةِ جبل عرفات وهو جبلٌ على الطَريق بين مكة وَالطائف، وقف الإمامُ الحسين (ع) وجماعةٌ من أهل بيته وولده ومواليه يوم التاسع من شهر ذي الحجة مستقبلًا البيتَ الحرام ثمّ رفع يديه تلقاء وجهه كاستطعام المسكين وارتجل دعاءً طويلًا دون إعدادٍ سابق، فما العجب؟

مناخ المنطقة صحراوي حار مثل أغلب مدن شبه الجزيرة العربية ودافئ في فصل الشتاء، فمن من الناس يستطيع الوقوف لساعاتٍ عديدة ناحية هذا الجبل الوعر حيث لا زرع ولا ظل، تحت الشمس، ويبتدع بلا رويَّة دعاءً مثل هذا الدعاء؟ فعندما تُقام مناسك وقفة عرفة في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة يقرأ الحجاج هذا الدعاء تحت ظل الخيام يشربونَ الماء البارد وأنواع الشراب ويأكلونَ طيب الطعام، ما لذَّ منه وطاب، ومع ذلك لا يمكنهم مقاومة الحر والجفاف وطول الموقف، حتى إذا ما حل المساءُ أصابهم الإعياء والجهد!

أليست هذه معجزة تستدعي التدقيق؟ حيث إنه لو اجتمع ثلةٌ من العلماء والبلغاء في أي زمان تحت أمتع المناظر ؤأبهجها للنفس وأهونها على الجسد لم يستطيعوا أن ينشئوا فقرةً واحدة ولو أعطوا أيامًا كثيرة يراجعونها ويمحصونها، فكيف إذًا وقف هذا الحسين تحت الشمس مع شح الموارد وحَزن المكان في ذلك الزمان وقال ما قال من علوم حتى إنه أثَّرَ تأثيراً عظيماً في نُفوس من كانوا معه، فاتَّجَهوا بقلوبهم وعواطفهم نَحوهُ يستمعون دعاءه وقد عَلَت أصواتَهم بالبكاء معه، وذهلوا عن الدعاء لأنفسهم في ذلك المكان. واستمَرَّ هو يَدعو حَتى غَربت الشمسُ، فَأفاضَ (عليه السلام) إلى المُزْدَلِفَة، وَفاضَ الناسُ مَعه؟!

هو ابن أبيه علي بن أبي طالب (ع) حقًا في البلاغة وابن أبيه في معرفة الله، من كان يدعوه ويرجوه في مثل يوم عرفة، وهو ابن أبيه الذي يفيض بمعارف دينية ودنيوية قيّمة، وتعاليم عرفانية وعقائدية عالية. وإلا لما استطاع أن يقدم درسًا توحيديًا مفصلًا متدرجًا بين العلوم الدقيقة للإنسان من عالم الأصلاب إلى الأرحام وظلماتها، ثمّ إلى الدنيا وتطوّراتها وأطوارها المختلفة، ومسافرًا من آيات النفس البشريّة القريبة من الإنسان، إلى آياتِ الكون في الآفاق الرحبة.

من ذا يستطيع تحت هذه الظروف المزبورة أن ينظم: “اَشْهَدُ يا اِلهى بِحَقيقَةِ ايماني، وَعَقْدِ عَزَماتِ يَقيني، وَخالِصِ صَريحِ تَوْحيدي، وَباطِنِ مَكْنُونِ ضَميري، وَعَلائِقِ مَجارى نُورِ بَصَري، وَاَساريرِ صَفْحَةِ جَبيني، وَخُرْقِ مَسارِبِ نَفْسي، وَخَذاريفِ مارِنِ عِرْنَيني، وَمَسارِبِ سِماخِ سَمْعي، وَما ضُمَّتْ وَاَطبَقَتْ عَلَيْهِ شَفَتايَ، وَحرِكاتِ لَفظِ لِساني، وَمَغْرَزِ حَنَكِ فَمي وَفَكّي، وَمَنابِتِ اَضْراسي، وَمَساغِ مَطْعَمي وَمَشْرَبي، وَحِمالَةِ اُمِّ رَأْسي، وَبُلُوغِ فارِغِ حبائِلِ عُنُقي، وَمَا اشْتَمَلَ عَليْهِ تامُورُ صَدري، وَحمائِلِ حَبْلِ وَتيني، وَنِياطِ حِجابِ قَلْبي، وَأَفْلاذِ حَواشي كَبِدي، وَما حَوَتْهُ شَراسيفُ اَضْلاعي، وَحِقاقُ مَفاصِلي، وَقَبضُ عَوامِلي، وَاَطرافُ اَنامِلي وَلَحْمي وَدَمي، وَشَعْري وَبَشَري، وَعَصَبي وَقَصَبي، وَعِظامي وَمُخّي وَعُرُوقي، وَجَميعُ جَوارِحي، وَمَا انْتَسَجَ عَلى ذلِكَ اَيّامَ رَِضاعي؟”.

إذًا، ليس عجبًا أن يبقى هذا الدعاء معجزةً خالدة في بلاغةِ الكلام وبداعة المضامين ما بقي الجبل الذي وقف الحسين (ع) على يساره قبل مئات السنين ويدوم دوام الحج، فما كان لله يبقى وما كان لغير الله يفنى.



error: المحتوي محمي