لا يوجد ما لا يناقش في الأدب والكتابة، كل شيء ممكن، وإمكانيته، في إمكانية نقاشه، والخروج من خلاله باللؤلؤ والمرجان.
إن الإبداع والعلم والمعرفة، من ديدنهم أن تكون الأول، ولا ترى على قمم الجبال سبيلًا، ومقصدًا إلا سلكته واتجهت إليه.
تقول أمي -حفظها الله-: يا ولدي، الإنسان شغوف بكل شيء، كبطنه، فإذا فكرت في شيء ما، من الأهم أن تتقنه، لا أن تبحر في التفكير، كهاوي متعة، سرعان ما يزول الانتشاء منها.
ذكر الكاتب والناقد الأدبي محمد الحميدي، في صفحته على قناة التواصل الاجتماعي “تويتر”: أن أكبر خطيئتين مارسهما المثقف العربي، تأتي في الإشادة بكتاب، أو بكتابة لا تستحق، وإبراز أفراد لا يستحقون الظهور، متسائلًا: فهل تعرفون خطيئة أكبر من هاتين؟
الحميدي، أصاب كبد الحقيقة، ووضع حروفه على المأساة، التي تقض مضجع كل متوجس على الأدب والثقافة، من يغار عليها، كأنثاه، يخشى غرقها وابتعادها، أو تحولها إلى سراب.
لماذا يُشاد بكتاب، أو بكتابة لا تستحق؟
سؤال مهم جدًا، تغريه الماهية السببية في ذلك، بكونها مطلبًا، للمعرفة، وقد نشير إلى بعض أسبابها – كما هي في نظري:
أولًا: أن القارئ، قد لا يمتلك تلك الثقافة النوعية، التي تخوله تقييم ما يقرأه في وجهته الصحيحة، لذلك تجده، مشيدًا بكتاب، أو كاتب، لم يقدم ما يجعله يستحق الإشادة.
ثانيًا: ظاهرة الشللية، التي قد تأخذنا ناحية أن البعض، قد يجامل المقرب منه، ليسبغ عليه من الإشادة، وهو يعلم أن منتجه لا يستحق، ولكن، لأنه أراد الإشادة، حصل عليها.
ثالثًا: غياب الثقافة النقدية، ما قصدته، أن يتمتع القارئ – ولو بشكل بسيط – بهذه الثقافة.
إن الإنسان اليوم، مع وجود قنوات التواصل الاجتماعي، وسهولة الحصول على المعلومة، قراءتها، سيمتلك الحس الجمالي، الفني، كذلك النقدي الانطباعي، والقراءة سبيل، ليفرق بين المنتج، الذي يستحق الإشادة، وما لا يستحق، لتكون بديهية في مكنون ذاته، تزدهر في ذائقته، يستحضرها، متى أراد لها الحضور.
بسبب عدم القراءة المكثفة والمركزة، الشغف بها، سواء أكانت في كتاب، أم من خلال العالم الافتراضي، فإن القارئ سيفقد الحس الأدبي والجمالي، ولن يتمتع بنظرة نقدية دقيقة وفاحصة لما يُكتب، وسيعجز بالتالي عن إبداء أي رأي تجاهها.
إن النقد الأدبي ليس العصا التي نضرب بها النص، لنكشط الغبار عنه، ونحن لا نعلم أيعاني منه أم لا، إنما هو كشف ألوان قوس قزح فيه، وما يجيء، ليعيق هذه الألوان من البزوغ، والظهور والتألق.
إن الإشادة أمر مهم، لكنه يأتي في ما يستحق، بعيدًا عن المدح السلبي، اقترابًا من الإيجابي، ليكون أثره طيبًا.
تقول أمي: منذ أن كنا صغارًا، ونحن نعشق الأبواب القديمة، وكانت أمهاتنا، حكاياتهن، تتسم برائحة المكان، أصابعهن، تمتزج بعذوبة الطين، تغتسل بماء الأرض.
أخذني التفكير فيما قالته، لأجدني، ما زلت أقرأه، لأبصرني، بلا وجه، بلا ملامح، تشبهني، أعرفه جيدًا، وأتوسم فيه، أن يكتبني، لأعرف ظلي.
لم أعد إليه، فهل، سيقنع ظلي، أنه بلا ظل؟
ألا تأتي الأبواب القديمة، من رائحة الماضي الجميل، ألا يمثل الأصالة، كصحرائنا العربية، والشعر الجاهلي، الذي ما زلنا، نترنم على قول المتنبي – مثلًا – حين قال: وما كنت ممن يدخل العشق قلبه، ولكن من يبصر جفونك يعشق، وغيره من الشعراء، ومن هنا، يُطرح السؤال: لماذا ما زالت الكثير من النصوص الأدبية القديمة، تحمل في داخلها الرشاقة والعذوبة، ومن المأمول أن تستمر إلى المستقبل البعيد، وتعيش مع أحفادنا؟
في الصياغة الأدبية، لا تكون الصور الجمالية بسيطة، لحد البلادة، بل ينبغي أن تكون ابتكارية في الرؤية والعمق، لتكون مؤشرًا جماليًا، يضمن استمرارية عذوبتها.
إن الإشادة، تأتي من خلال عمق الكلم والمعنى، ليتعتق بصره، تشبع الكلمات طراوة الحرف، ليس وحده، ثمة ظلال من الخيالات، ترافق عذوبته، أنات ليل لم تضمحل، ذات لحظة من الفناء، سيكون العازف متجردًا من لباس المعنى، متفانيًا في أريج الكشف، ليست الأشياء، ذاتها، التي أبصرها الآخرون، يختلف عنهم -بالضرورة بمكان.
من هنا، نحن بحاجة إلى تقنين المخرج، في التفاعل، مع المنتج – النص – لنكون أكثر دقة، والابتعاد عن المجاملة – بقدر الإمكان – لذا يظن البعض، أن الإطراء في غير محله، سينتج نصًا، مبدعًا، على العكس، فقد يجعله مترهلًا، في حين أن الصدق، يمحنه الاجتهاد، بنسج النص، الذي يتمتع بالحيوية، والدهشة.
وعليه، يستحق الإطراء، والإشادة بامتياز، ويكون نموذجًا، قدوة، وملهمًا، ليأتي الآخر، يرتشف من معينه، ليولد الإبداع في أكثر من لون، واتجاه.