ليست كما العادة، جنازة تتلوها جنازة.
ولستُ أدري ما بال ملاحة الخير، اليوم عن بعضهنّ تغيّبوا، وليست كما العادة، ما عهدتُ المجالس خالية، ما عهدتُ الدار دون أهلها، تسير الجنازة والحاملين لها قلّة!
الكلُّ في حجورهن، يُحظّرون الدموع بِدعواتٍ آنسة، يُحظّرونها جيّدًا ويتلون القرآن مسبوقًا بِصلواتٍ مهدوية.
عجّل يا نور البصر، ارحم مواجعنا.
عجّل، فالأحباب رحلوا، والدار خلت، تعال وخفّف مواجعنا، نحنُ نملك الندبة، وأنت تملك العطية.
الملاحة على غير عادتها، لستُ أدري ما بال المقبرة لم تعجُّ بالمُعزين!
شهدتُ رؤيتها غريبة، حزينة، والكلُّ على أعتابها يبكي، شهدتُ رؤية المقبرة في دفن الراحلين ولأول مرة أراها دون المواسين!
شهدتُ حسرة الباقي، حسرة المشاركة في التشييع، حسرة الدموع في أن تسقط على تلك القبور، حسرة الأحضان وطبطبة الأحباب، كلَّ الدموع تحنُّ إلى الأكتاف، كلَّ الدموع لها نصيبٌ من الحسرة.
ليست كما العادة، والأمر محزن للغاية.
بعضٌ من الأحباب قد غيّبهُ الموت عنّا، والبعض الآخر يرقدُ بالآلام، ولسنا بقادرين حتّى أن نقف على تلك الممرات، فالمستشفى أيضًا يخلو من الزوار ويئنُّ من شدة المواجع.
ترتجف الكلمات خوفًا من أن تظهر، فهُناك الجد الحنون (أبا عيسى مويس)، كل ليلة ينتظر أحاديث أمي، ينتظر أن تخبره بأن الوباء زال، وبأن الشفاء كُثر، وبأن الملاحة ومن فيها بخير، ولكن كل كلمات أمي تُخالف ما ينتظره جدي، وبدأت تُعدّد الأموات.
لستُ أعلم حقيقةً ما حال قلب جدي، لكنّني رأيت دموعه أظهرت لي الكثير.
بسم الله الرحمن على هذه القرية من كل أذى يصيبها، بسم الله الرحمن على شبابها وعلى كِبارها من الموت.
الآن، وفي كل ليلة من هذا الشهر تعجُّ القرية كلُّها، تعجُّ المساجد، المجالس وحتّى البيوت “السَّلامُ عَلَيْكَ يا ثارَ الله وَابْنَ ثارِهِ وَالوِتْرَ المَوتُورَ”، لأننا نعلم بأن من يطرق باب الحُسين لا يعود خائبًا، قصدناك.
كلّ شكوانا تقصدك سيدي، طيّب جراحنا وبلغنا مُحرم، وارحم موتانا، فإن لهنَّ من مجالسك ذكرى ومكان.
إلى الله نرسل تلك الدعوات، صادقة، رطبة من الدموع، مليئة بالحزن ترجو الرحمة منك يا رحيم.