إن فيلم “الأمريكي الهادئ – 1958” لم يكن هادئٍا كما يوحي اسمه، بل صاخبًا بالدسيسة والخديعة، وأنانية حب الذات بامتلاك قلب الفتاة، نزاع مطرد حول كسب ودها، والأخذ بيدها كل إلى نفسه.
الفتاة “فونج” تختلجها الحيرة بين هوى الاثنين، أتميل للعجوز “فاولر” المتزوج وهي المفتونة به مبكرًا؟ أم تعيش مع الشاب “بايل” الأعزب الذي وعدها بالحرية والسعادة الأمريكية المرتقبة، نوازع قلب بين هذا أو هذا، وعواطف تتوه بين مسافتين لحب أعمى، أتستسلم لأحدهما أم تنصت لمنطق العقل بالتحرر من كليهما؟
مشاعر وأفكار متأرجحة تكتنف عقل وقلب الصبية المشتتة بين الغرباء، كحال وطنها الممزق بين استعمارين، قديم بلغ من العمر عتيًا يلفظ أنفاسه الأخيرة بالرحيل المر، وجديد مفتون بعضلات القوة والغطرسة.
شخصية الفتاة المحورية ما هي إلا تجسيد رمزي لوضع دولة فيتنام التي تعيش الصراعين لدولتين “أمريكا وفرنسا”، كل يريد أن يأخذها إلى حضنه بالمطلق إلى ما لا نهاية، بالاستيلاء على جسد الأرض واستباحة كل شيء فيها.
وما بين الخاص والعام، تقوم الدراما السينمائية بخيانة النص، وتشتبك بحوارات متواطئة وبفعل مدبر على وجوب محاربة الشيوعيين، لوقفهم عن جرائمهم الدموية.
وعند عرض الفيلم لقي أصداءً واسعة في أمريكا، لكن الحزن خيم على “غراهام غرين” صاحب النص، حيث تبرأ وتنصل من الفيلم تمامًا بل أدانه، وقال: “ليس أكثر من فيلم دعائي أمريكي”.
فسطور الرواية تشير بوضوح إلى أن الذي خطط للتفجيرات في وسط العاصمة “سايغون” كلها من تدبير الشاب الأمريكي “بايل”، فهو الذي يقف وراءها، وسطور أخرى تطرح إشكالية حرب الإيديولوجيات والزعامة بين فرنسا وأمريكا، وصوت الراوي “فاولر” المتهكم يبرز الصور العبثية للمحتل على أرض فيتنام.
وما بين الفيلم والنص نقد واتهام أشبه بحرب معلنة، فالرواية حينما صدرت سنة 1955م قوبلت بعداء شديد في أمريكا شعبيًا ورسميًا، لدرجة حرمان الكاتب من الدخول إلى أمريكا، بحجة ميوله اليسارية.
بينما الفيلم دجن الرواية وروضها لصالحه، وكأن الفيلم جواز سفر أمريكي للانقضاض على أرض فيتنام.
وبعد مرور 42 عامًا على إنتاج الفيلم الإشكالي، تم إعادة تمثيل الرواية مرة أخرى عام 2002م، بصورة مختلفة عن الفيلم الأول “الأسود والأبيض”، مع مخرج وممثلين مختلفين، وصور الفيلم في أغلب مشاهده في استديوهات “Cinecitta” بروما -أكبر مجمع سينمائي في أوروبا-، ولم يكن في أرض فيتنام مثلما كان في الفيلم السابق.
وإلى حد كبير اقترب الفيلم الثاني من أجواء الرواية حسب رأي النقاد، ولكن هل رضي عنه الكاتب “غراهام غرين”، قطعًا لم يتسنَ له رؤية ذلك أبدًا، لأنه فارق الحياة قبل إنتاج الفيلم الثاني بعشر سنوات.
وما بين الفيلمين، ثمة فروق فنية وتاريخية، ففي النسخة الأولى 1958، تم التصوير في ذات المكان الذي أشارت إليه الرواية، وهو فندق كونتيننتال في مجده الخمسيني، بينما نسخة 2002 لم يقترب المخرج من عين المكان، وعوّض عن ذلك بإنشاء نسخة رقمية للفندق بشكله القديم المطل على ساحة سان، لكن هذا التحايل لم يكن مقنعًا بصريًا.
وكلا الفيلمين استخدما ساحة
“فرانسيس غارنييه” السابقة والتي شهدت مشهد تفجير السيارة المفخخة.
والمكان في عمومه شاهد على الحقبة الاستعمارية الفرنسية شكلًا وتخطيطًا، وحتى الأسماء الفرنسية التي سادت لسنين خلت، أصبحت الآن نسيًا منسيًا، ليس لها ذكر سوى في صفحات تاريخ البلد الاستعماري، فبعد التحرير من قبضة الأجنبي استبدلت جميع مسميات الأمكنة بأسماء فيتنامية.
هناك صور حية لمعالم الجسر القديم “جسر القوس الثلاثي” الذي تحركت فيه شخوص الرواية، وكذا ردح فيه الممثلون في كلا الفليمين، إنها معالم معمارية تم بناؤها عام 1920 مبنية على الطراز الفرنسي، الآن أصبحت أثرًا بعد عين، نتيجة تطور فيتنام، خصوصًا بعد أن رفعت أمريكا الحصار عنها عام 1996، فقد شهدت طفرة عمرانية غيرت من كل أوجه المعالم القديمة.
ومن يتملكه الحنين لمعالم فيتنام الأمس هنا شهادة حول الفيلم الأول:
“برغم عيوب فيلم 1958 غير المتأقلم مع الرواية الأصلية، الذي قدم بخبث واضح للعيان إلا أن كل اللقطات المركزة على سايغون وحولها تجعل من فيلم 1958سجلًا بصريًا فريدًا ورائعًا لهذه المدينة خلال الفترة المضطربة”.
إن رويات “غراهام غرين” هي من وحي سفراته المتعددة، ومعايشته عن قرب لأحوال كل بلد يزوره، ومن هنا تبرز قيمة روايته، ومنها “الأمريكي الهادئ” المستمدة من قلب الأحداث، فقد كتب أجزاءً منها أثناء تواجده لمدة أربع سنوات في سايغون، فعرف كل شيء عنها.
وتمثل شخصية “فاولر” بطل الرواية، والصوت المتكلم خلال السرد هو أنا الكاتب ذاته، حيث كان غراهام مراسلًا لصحيفتي “التايمز والفيجارو” وقد استعار أسماء الشخصيات التي صحبها وتعرف عليها، وبلور وقائع الأحداث بإعادة ترتيبها لمصلحة
سير الرواية.
وكل أحداث النص شهدها بأم عينه، وهي فترة التحول بين الاستعمارين الفرنسي والأمريكي، فالرواية لم تكن خيالية في بعدها الوصفي وليست وثيقة تاريخية صرفة، بل هي شهادة حية لما أبصره الكاتب من الحقائق المرئية، ذاهبًا في البعد المستقبلي، مستشرفًا لما وراء النص عما ستؤول إليه أحوال البلد في القادم من الأيام، وما سيحل للقوات الغازية الجديدة من هزيمة نكراء، وبالفعل لم تخب بصيرته الثاقبة.
إن روايات غراهام هي ترجمان فعلي لتجواله عبر قارات العالم وخصوصًا في الأماكن الساخنة أو الملتهبة بالثورات والقلاقل والحروب، وقد استلهم كثيرًا مما عايشه عن كثب مطعمًا بخياله الأدبي، فأصبحت جل رواياته من عين الأمكنة التي حط رحاله فيها.
إنه كاتب فذ وناقد أدبي، تقول عنه نازك باسيلا: “إن غزارة نتاجه، ونوعية ذلك النتاج الفريد وتنوعه، جعلت من الروائي الإنجليزي منجمًا لا ينضب غرفت من روائعه السينما العالمية ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا”.
– كاتب السطور لديه مجموعة قصاصات عن هذا الروائي أشبه بالأرشيف، تم تجميعها على مدى أكثر من ثلاثين عامًا، أوراق متناثرة تحتوي على دراسات ومقابلات شخصية حول منجزه الروائي والأدبي، وذلك من خلال صحف ومجلات عربية متنوعة.
وأنقل بعضًا من العناوين اللافتة التي بين يدي: ففي مجلة الأسبوع العربي الصادرة بتاريخ 1428/9/5، صفحة أدب: “غراهام غرين منجم لا ينضب”، وفي مجلة الفرسان صفحة ثقافة: “غراهام غرين يتذكر: للتخلص من الضجر أحببت الحروب.. والأسفار”، وأيضًا مجلة الفرسان صفحة روائي بتاريخ 22 نيسان 1991 “غراهام غرين قبل رحيله: أنا أفضل قارئ لكتبي”، وجاء في مجلة المجلة- عدد 584 – بتاريخ 1991/4/17، “وأخيرًا حصل على جائزة الموت التي انتظرها”، وفي مجلة الكفاح العربي عدد 780 – بتاريخ 1993/7/12، شهادة تحت عنوان: “غراهام غرين: نداء الرثاء العميق”، يسرد بصيغة أدب الرحلات عن رحلته الثالثة إلى أدغال ليبيريا سنة 1936م والصادرة عبر كتاب بعنوان “رحلة بلا خرائط”، يتحدث عن الأماكن البكر في إفريقيا، والمقارنة بين أوروبا المأزومة بفعل نظامها الرأسمالي، ومعرجًا على قسوة المدنية الحديثة، وعلى نفي الإنسان في وطنه، وارتفاع أنانيته إلى حد الضجر والتوحش، ساخرًا من الحروب العبثية التي شوهت الحياة، ويقول في هذا السياق حيث يمزج بين المرضي والعاطفي: “أجد نفسي ممزقًا بين اعتقادين، الاعتقاد بأن الحياة يجب أن تكون أفضل مما هي عليه، والاعتقاد بأنها أسوأ حقًا، حين تبدو أفضل”، وبهذه الإشكالية النفسية وبهذه الروح المتناقضة، جسدها غراهام غرين لبعض الوقت حينما كان جاسوسًا بريطانيًا، وهو الذي ينادي بتحرر الكاتب من تبعية السلطة وعدم الرضوخ لها، لكن اشتغاله لم يدم طويلًا مثل مواقفه المتغيرة، فهو يكره الثبات ويهرب من الملل والسأم بكثرة الأسفار، فهو لا يهدأ له بال في مكان إلا وحط رحاله في مكان آخر، مما أعطى زخمًا وثراءً على مجمل إنتاجه وجعله من المبدعين في عالم الرواية.
إن كانت عينه ذات يوم مخبرة فذائقته كانت مبدعة على الدوام.
كم من العيون باسم القلم والفن كانت تجسسية، ولم يفطن لها إلا بعد حين، إما من خلال تصريح نقاد مستقلين، أو بالبوح الشخصي من خلال كتابة المذكرات.
ثمة وجوه مشهورة في عالم الأدب عاشت حالة من الازدواجية، ما أقسى على المبدع المتأرجح بين جماليات الفن وقبح السياسة، ولكن والحق يقال إن موقف غراهام تجاه دولة بعينها لم يتغير، وقد أشار إلى ذلك بوضوح في بعض إنتاجاته الأدبية ومقابلاته الصحفية، ويتمثل ذلك في نظرته المقيتة وانتقاداته اللاذعة للسياسة الأمريكية برمتها والتي جرت الويلات على شعوب العالم، وربما هذا العداء حرمه من نيل جائزة نوبل للآداب، ومعروف أن هذه الجائزة لا تخلو من براثن وألاعيب السياسة.
وبالعودة للنسختين القديمة والحديثة للفيلم “الأمريكي الهادئ” يستكشف المشاهد كم لعبت سينما هوليوود دورًا كبيرًا في تأجيج صراع الحرب بل إنها حاربت في فيتنام تمامًا كما حارب الجنود.
وتكمن أهمية رواية غراهام غرين “الأمريكي الهادئ” بأنها تنبأت بهزيمة الجيش الأمريكي منذ وطئت أقدامهم أرض فيتنام، وهو المبدع والروائي الوحيد في العالم الذي تنبأ بذلك.