سيدة العطاء.. أم عبد الله الزاهر

إن من الوفاء في أبهى صوره تقدير وتكريم تلك الشخصيات الاستثنائية والتي صنعت فرقاً في مسيرتها الحياتية وكان لها أقوى التأثير في مستقبل الكثيرين، كما كان لها دور كبير في تمكينهم ومساندتهم وإسعادهم.

وفي سجل تجاربي الحافل برموز مبهرة لمعت أسماء مضيئة لنساء عظيمات أعطين أروع الأمثلة في الأمومة الحقيقية التي تتضح في مسيرة التضحية والعطاء بلا حدود، والمشاعر اللا محدودة من الحب بلا شرط أو قيد  وكأن نبع الحنان نهر يغدق على من تحب بدءاً من الأسرة والأقارب والمعارف والجيران.

سيدة أكملت العقد الثامن من عمرها الطويل، ورغم ذلك لا تزال تتسم بتلك الصفات النفسية التي تحدد ملامح شخصيتها القوية وقدراتها في إدارة سفينة أسرتها مهما كانت أمواج بحر الحياة متلاطمة، فإنها بمجداف صلابتها وصبرها وتحملها جعلها خير رُبان أتقن تدريب وتربية من هم تحت إدارته فأوصل سفينته إلى بر الأمان ومرسى الاستقرار وأعطى لكل فرد ما يعينه على الاستقلال وبدء مسيرة حياته وعمله بنفسه في حين اتخذت موقع القيادة مساندة ومرشدة للجميع.

ولعل شيمة الكرم والتعامل مع الآخرين من مبدأ “أحسن لمن شئت تكن أميره” جعلها جديرة بأن تكون صاحبة الفضل فهي لا تتردد أن تمد يدها الكريمةً بمختلف ألوان العطاء بكل سخاء تدعو كل أحفادها وأولادهم لتسعد قلبها بهم ولو لدقائق لا يغادرونها دون أن تسعد أطفالهم بعطاياها الجزيلة وهداياها التي لا تدخرها لمناسبة، فزيارة أحبابها بالنسبة لها أجمل مناسبة وإشاعة السعادة في قلوب أحفادها الصغار بتوزيع العيديات النقدية ليس في مناسبة الأعياد فقط لأن عيدها سعادة أحبتها وعدم احتياجهم لشيء، وخصوصاً إن كان في يد الآخرين فقد علمت أولادها أن عزة النفس والعمل والمثابرة حتى نيل الهدف المنشود وتحقيق الأهداف هو ما يجب أن يتخذوه شعاراً ومنهاجاً.

‎عظيمة هذه المرأة التي أنجبتها عائلة وجيهة من عوائل بلدة العوامية وتزوجت صغيرة من رجل يكبرها بضعف سنين عمرها، بيد أنها كونت مملكتها وتوجت عليها بأقدس تاج وهو وسام التضحية لتربية أبنائها الثلاثة وبناتها الثماني والذين أصبحوا جميعاً فخراً لها بنجاحهم وعكاز مشيبها وسناد زمنها حتى أرذل العمر،  فلم تشعر بذلك العجز والذل الذي يعتري كبار السن ممن لم ينصفهم أبناؤهم بالبر والوصل الحسن والمعاملة الطيبة.

‎ليست كل والدة ترتقي عرش الأمومة بجدارة كهذه الأم التي تربعت عليه بتضحياتها وحرصها على أولادها وعوائلهم ومساندتها لهم مادياً ومعنوياً، تشهد تجاعيد يديها التي اخشوشنت وآلامها التي أضعفت جسدها من الإجهاد والعمل منذ وقت مبكر لم تكمل فيه حتى عشرون عاماً، ولعل ثقل مشيها الآن يذكرني بخفة حركتها وعملها الدؤوب الذي أفنت فيه عمرها.

‎ بنور القرآن ورفعة شأن تدريسه وتعليم تلاوته لأولاد بلدتها وبناتهم بدأت مسيرة كفاحها، وبشرف خدمة الحسين الذي أصبحت ناعية له وهي في ريعان شبابها وقامت بتعليم جميع بناتها ليصبحن من أفضل القارئات الحسينيات.

ولأجل تحسين معيشتها لم تدخر وسعاً أو تترفع عن عمل، فقد عملت بتربية الحيوانات بمساعدة أولادها الذكور، وعملت بالتجارة في بيع الحلويات لطلابها من دارسي القرآن، وكذلك بيع التبغ (التتن) بالكيلو، كل هدفها الادخار كي تضمن لأبنائها المقدرة على شراء أراضي للسكن المستقل وتخليصهم من الإيجار، بل تعدت ذلك وقامت بإعفاء بعض أولادها وأحفادها من أجرة السكن في منزل تعود ملكيته لها.

ومن أجمل ما لمسته من حقيقة التكافل الأسري والاجتماعي الذي جسدته هذه الأم العظيمة والجارة التي تتودد للناس بسخاء ما تجود به نفسها، فقد كان لديها بعض العادات الحسنة كعمل غذاء سنوي للجيران في بيتها، يحضره العشرات عن طريق زوجها، حيث يقوم بدعوة  الأهل والجيران لمأدبة الغذاء بغية إشاعة روح الحب والمودة بين الجميع، وكانت تحمل هذه العادة الكريمة حتى في سفرها، فما إن تطأ قدمها بلداً من البلدان لزيارة الأئمة الأطهار، إلا وقد وجهت زوجها بدعوة من يعرف من رجال بلدته ومن يعلم بحاجته، فيقدمها كاستضافة ليحفظ بها ماء وجه المتعففين من المحتاجين لتناول وجبة من الغذاء يحضرها جمع من المعارف، كما كانت تعطي للكثير من أبناء أبنائها وبناتها من أقدم على الزواج مبلغاً سخياً من المال مساعدة له في تكوين حياته الزوجية، وغير ذلك الكثير لو ذكرت كل ذلك لكانت أسطورة العطاء في نظر كل من قرأ المقال.

وأخيراً، ولأنني أعتبرها قدوة للنساء بمسيرة كفاح  امرأة عطرت مسيرة حياتها بعطر شيمة الكرم والسخاء والتي تخلد صاحبها وإن لم يكن مسلماً كما وصلت لنا أنباء حاتم الطائي الذي خُلد في سجل التاريخ الناصع كمثل أعلى في الكرم وحسن وفادة الضيوف وإطعامهم.

لم يكن أحد يدخل بيتها ويخرج فارغ اليدين، فقد كانت تهتم بإطعام الناس والجود بكل ما يوجد في بيتها وإدخال الفرحة على كل من يتعامل معها.

تعلمت دروساً عظيمة في القيم والمبادئ التي لا يمكن أن نشيد بها إلا إن لامست قلوبنا وأرواحنا من تلك الجدة الحنونة، والتي لم تكن أقل تألقاً في دور الجدة منه في دور الأم فقد وجدتها تعتلي القمة في كليهما.

وحين تنحني إجلالاً لقدرها كي تطبع قبلة على رأسها تقديراً لجهودها وتضحياتها فإنها في نفس الوقت تقبل يديك فرحة منها بزيارتك واهتمامك بصلة الرحم.

أطال الله عمرك أم عبد الله أحمد جعفر الزاهر، وأسعد أولادك وأحفادك بطول بقائك.

لله درك من امرأة استثنائية.



error: المحتوي محمي