من تسبب في وفاة سلمان؟

خرج المواطن والإنسان البريء سلمان من مسكنه ذات نهار، ضاجاً من أوجاع نخر السكلر في شتى أنحاء جسده، قاصدّا إحدى البقع التي يرتجي فيها طب أوجاعه أو نهايته كما في بعض الروايات، إذ أن الألم أشد من أن يكابده أكثر من ذلك، فهو مع السكلسل رفقاء منذ ولادته، وبعد هذه العشرة الطويلة أمسى يدركه تماماً حتى بات يعرف من أين يأتيه ومن أين يروح عنه، وبات يدرك أيضاً أنه لن يبرح رهين آلامه كسجينٍ في زنزانة تعذيب لن يبرحها حتى يمنحه الأطباء علاجه الذي توصلوا إليه عبر آلاف التجارب والكثير من الأجساد والأرواح الضحايا، إنما خابت آماله بل وئدت ثقته ومشاعره! إذ وجد نفسه دون مبرر يستوعبه العقل أو حجة تتقبلها الأنفس مطروداً من رحمة البشر حيث اعتاد أن يحصل على رحمة الله عبر يدهم هناك لعشرات السنين! في ذاك اليوم قابل إنساناً جديدًا يرتدي لباس ملائكة الرحمة ويعامله دون أي شكل من أشكال الإنسانية أو الرحمة!

واقعًاً… لا أدرى أيهما فتك به ولكني أميل بشدة إلى أن شعوره بالقسوة وعدم الرحمة هو ما فتك في روحه قبل جسده!

من يعرفونني جيداً وحتى الأصدقاء الأحبة المتابعين لما أبث وأسكب من روحي في شبكات التواصل الاجتماعي يعرفون كم أقدس مهنة الطب وجميع العاملين في القطاع الصحي أو بالأحرى العاملين على طب الناس وبلسمة أوجاعهم، وأنا لا أسميهم بأطباء أو ممرضين أو فنيين أو أيًا من هذه الأسماء المجردة، بل أسميهم ملائكة الرحمة، هذا هو اسم من يعمل في هذه المهنة النبيلة جداً، والتي لا تتطلب الخبرة الطبية فقط! بل أرواحاً استثنائية تتحمل مشقات لا توصف ولا يتسع لحملها خيال، يقاسون السهر ويقاتلون في الجبهات الأولى للأمراض معرضين أنفسهم لأخطارها، ويتسلحون بوجوه وأنفس تتسع لتفهم وتحمل الجميع، في كثير من الأحيان وبلا مبالغة، لهم رحمة أمي وصبرُ أبي،

إنما ما نقل لي عن قصة سلمان، يستحق منا جميعاً التوقف عنده، والسماح لأنفسنا بالتجرد قليلاً عن انحيازها لأي جانب، ليس لأجل سلمان ولأجل والديه وذويه وأحبته فقط، بل لأبعد وأوسع من هذا بكثير.. أن نحمي الآخرين من الوقوع فيما فتك به وأنهى حياته في ريعان شبابه، أرى أنه لابد لنا أن نسأل هذا السؤال بصراحة وشفافية… من تسبب في وفاة سلمان؟!

نقلاً عن لسان المرحوم نفسه…
في الثامن من شهر شوال هذا العام 1441 التجأ (سلمان عبدالرؤوف آل يتيم) إلى أحد المستشفيات، مقهوراً تحت مطارق أوجاع السكلسل وسندان انهيار قدرة التحمل، أملاً في يدٍ رحيمة وضمائر بشرية اعتاد بلسمها طوال حياته هناك، وهناك عبر أحد أقسام هذا المستشفى في حدثٍ صادم للعقل والشعور في آن واحد وجد نفسه بين رحمة وحكم طبيبة لا تبدو كالأطباء اللذين ألفهم طوال حياته هناك! قابلته بكل جفاء وقسوة ولأنه المحتاج ولأن أخلاقه لا تسمح له بمجادلة السيدات كما تملي عليه تربيته.

أذعن المسكين إلى غرائب ما طلبته منه دون أن ينبس بشفة، إذ أنه وللمرة الأولى يأتي المستشفى حاملاً أوجاعه وبدلاً من المسارعة إلى تطبيبها وتخفيف آلامه وبلسمتها، على الطريقة التي لم تتغير معه طوال عشرات المرات التي اعتادها طوال سنين حياته، وجدها ترسله ذات اليمنى وذات الشمال وتارة للأعلى وحيناً للأسفل وهو المنهك الخائر القوى الذي يرزح تحت عذابات أوجاع تشبه الموت في كل ثانية وجزء منها (لعله للظروف الحالية، ربما تكون قادمة من مكان آخر ولا تدرك شيئاً عن السكلسل وإجراءاته) هذا ما حدث نفسه به.. ولكن لا بأس لا حول ولا قوة… ولم تكن هذه نهاية الصدمة!

أخيراً بعد أن أنهكته ذهاباً وإياباً، بعد أن يئس من هذا اللف وبعد أن بلغ منه التعب مبلغه، أتاها يائساً طالباً الإحساس به وتقدير معاناته، وبعد أن وجد أخلاقها وعدم منطقية ما تطلب هو أمر لا يستطيع تحمله أكثر من ذلك.. خاطبها “أنا لست هنا لأشحت” وأجابته ونظرة ازدراء تعلو وجهها “بل أنت كذلك تماماً”!

وعند هذه الصدمة الجارحة لإنسانيته وكرامته كانت تخبئ له سكيناً آخر فلقد فاجأته بأنه تم إنهاء إجراءات دخوله من المشفى دون أن يدخل فيه فعلاً!

هنا خرج الرجل مرغماً مشدوهاً لا يدري أي الأوجاع يسكت وأي الجروح يضمّد! أهو الوجع الذي أخرجه من مسكنه والتجئ منه، أم عتو من التجئ به وقسوته!

ظل على تلك الحال يوماً آخر يتلوّى بأوجاعه حتى اضطر أخيراً أن يبحث عن علاجه لدى مستشفى آخر، وهناك انتقل إلى بارئه، فلروحه الرحمة والنعيم والرضوان ولأهله وأحبته وذويه السكينة والصبر والسلوان.

فمن يجيبنا ويشفي صدورنا الآن بجواب هذا التساؤل البريء الحزين المفجع، من تسبب في وفاة سلمان؟
ومن توفي لنفس السبب قبل سلمان، وهل سوف تتكرر هذه الحالة؟

هذا ليس سؤال عائلته أو أحبته وأصدقائه، هذا السؤال سؤالٌ الكثير، وكلنا بحاجة لجوابه والاطمئنان على سلامتنا وسلامة أحبتنا الذين لا سبيل لهم سوى التوجه إلى بعض الوجهات المعروفة للعلاج، فهل ستكون  قبلة تطيب فيها أوجاعهم وأنفسهم، أم مكانًا يحصد أرواحهم!

نحن نعلم علم اليقين أن الحياة والموت هما بيد الله وكل ما بيد الأطباء هو المحاولة، وكما نتفهم أن هؤلاء الأطباء أولاً وآخراً بشر غير معصومين وهناك هامش مقبول من الخطأ، في الواقع هو هامش لا مفر منه أكثر منه هامش مقبول إذ أنه ليس كذلك، ونعلم علم اليقين أن معظم أطبائنا والعاملين في سلكهم هم من خيرة الناس وأجودهم وهذا ما رأته أعيننا وسمعته آذاننا وأبصرته قلوبنا وأرواحنا طوال السنين.

فلا الشر يعم و لا الخير يخص، قد لا يكون المتسبب إنساناً بقدر ما هو شيء يشار إليه باليد ويوضع الأصبع على جرحه، فمن الذي تسبب في وفاة سلمان إن لم يكن أحدٌ تسبب وفجع قلوب أهله وأحبته؟



error: المحتوي محمي