النقد والتفاعل الشخصي
إكمالًا لسلسلة “النقد الحرام” سنتعرض في هذه المقالة الرابعة إلى البعد التفاعلي إزاء النقد. وقد ارتأيت أنَّ أقسم التفاعل إلى قسمين: تفاعل شخصي وتفاعل اجتماعي؛ وسأقصر هذه المقالة على التفاعل الشخصي، بينما الآخر سيكون في المقالة اللاحقة.
التفاعل الشخصي
لو فرضنا أن زَيْدًا مهندس الطيران عازم على تغيير عاداته إلى عادات تكون صحيَّة أكثر مما هي عليه الآن؛ وقد قرأ مقالًا عن كيفية زيادة مناعة الجسم ضد الأمراض؛ وقد أظهر المقال أن “الباجة” – الكراعين – من الأطعمة الخطيرة على الصحة بينما تعد هذه الطبخة من الطبخات العريقة في مجتمعه وفي عائلته بالتحديد، كما أنَّ عائلته مؤمنة إيمانًا قويًا جدًا بأن الباجة هي وجبة صحيَّة ولها فائدة عالية جدًا في بناء العظام والغضاريف ومنها غضاريف الركب، فضلًا عن أن هذه الطبخة لها طقوسها العائلية المساهمة في لحمتهم وإضفاء روح الأنس والسعادة بينهم.
في هذه الحالة قد يختلف الناس في ردات فعلهم وفقا لثقافتهم وتجاربهم، ولكن زَيْد هنا قرر أن لا تدفعه هذه المقالة إلى حث عائلته على ترك الباجة دون أن يتحقق من صحتها؛ وشحذ همته للتحقق من أمرها؛ وبهذا قصر تفاعله مع المقالة على شخصه دون الآخرين؛ فتجنب بذلك أن يحرم العائلة من عادة لها إيجابياتها على أساس غير علمي من جهة؛ ومن جهة أخرى لم يهمل الموضوع وتفاعل إيجابيًا بالرجوع لأهل الاختصاص لمعرفة الرأي السديد.
إن فعلَ زَيْدٍ هو ما أطلقت عليه التفاعل الشخصي حيث منع تفاعُلهُ مع المقالة أن يترك أثرًا على عائلته أو أحدٍ غيره؛ لا شك بأن التصرف الصادر عن زَيْدٍ هو التصرف الأحمدُ والأعقل؛ ولهذا لو كان تفاعلنا مع أيِّ فكرة جديدة على هذا النحو – وكلامي هنا في غير الموضوعات الخطيرة التي تستدعي التصرف بالوقاية على المستوى الشخصي والاجتماعي- لَكُنَّا قد تفادينا التشويش والإرباك وفقد الثقة ما بين تطلعاتنا وطموحنا ومشاريعنا وما بين نظرة الآخرين إليها؛ وعلى سبيل المثال لو أخذنا “نظرية دارون” كتجربة حقيقية مررنا بها؛ واستقرأنا ردات فعل الناس إزاءها؛ لوجدنا أنَّ الناقدين اختلفوا فيها فكان منهم:
1. مَن رفضها تماما واستشهد بآيات وروايات وأدلة فلسفية على ذلك.
2. مَن قبلها تمامًا وحاول أيضًا إثباتها دون أن يلم بمستلزمات الإيمان بها.
3. مَن تقبل إمكانية صحتها وحاول أن يوفق ما بينها وبين المعتقدات الدينية.
أما المتلَقُون من الناس فقد اختلفوا بالطبع وفقًا لاختلاف تلك الرؤى؛ بل اختلفوا في التفاعل مع كل رأي؛ فمنهم مثلًا من ناصرها بكل ما جاءت به؛ ومنهم من رفضها جملة وتفصيلًا؛ و في كلتا الحالتين أخذ المتفاعل على كاهله إقصاءَ أيَّ رأيٍّ آخر؛ إنَّ ردة الفعل هذه من أكثر ردات الفعل سلبية في نظري وذلك لأنَّ تصرفه كان بدون تحقق وبدون أنَّ يُقْصِرَهُ – على الأقل – على التفاعل الشخصي حتى يتحقق؛ ولذلك فإنَّ تصرفه ذلك – في نظري طبعًا – قد وسمنا نحن كمتدينين بالاستبداد والظلم الفكري، حيث سلبَ حقَّ غيرِه في الاختلاف وتَقَوَلَ على العلم بما ليس فيه. ولو أنَّه أتعب نفسه قليلًا واستمع إلى الناقدين الذين لم يرفضوا أصل النظرية وحاولوا التوفيق بينها وبين الاعتقادات الدينية السائدة لكان قد كفانا القتال ولَحافظَ على الصورة الحقيقية المتزنة للدين والمتدينين.
إنَّ ما نستفيده هنا من التجربة السابقة – في نظري القابل للنقد – هو أنْ نكون دائمًا مُفَعِلينَ لمهارة النقد والتحقق وأن يكون دائمًا التفاعلُ الأوليُّ لنا هو التفاعل الشخصي حتى يتبين لنا صحة المعلومة.
ومن ثَمَّ ننطلق في التفاعل الاجتماعي وفق نهج حكيم سيؤدي بتوفيق من الله إلى الأصلح على الأرجح.