كنت مع أولئك الذين رحلوا إلى بغداد حيث اعتزلتُ مع من اعتزل في دار الحكمة ننهل من معين كُتّابها، لكنني عدت أدراجي، وكنت ممن ترك بصمة مشرقة في أدب العزلة الحديث والتباعد الاجتماعي بالقراءة المتعمقة والبحث عن كلّ جديد في السّاحة العلميّة.
هذا الوقت يذكّرني بالفيلسوف الألماني شوبنهاور الذي اشتهر بمذهبه الفلسفي المتشائم فقد علّق فوق مكتبه لوحة كتب عليها:
(عدوّك من دعاك إلى غداء أو عشاء فمنعك بذلك من العمل)
إن الحرص على الوقت جعلني بين أَرْفُف مكتبتي أقلب الكتب لأنتخب أفضلها وكلها فُضلى، غير أنني وضعتُ يدي على رواية جميلة لكاتب كويتي، أخذني الشوق لمتابعة أحداثها بصمت المعتزلين.
وأنا أقرأ رواية (ساق البامبو) للكاتب والروائي الكويتي سعود السنوسي، أعرفُ جيدًا أن هناك من يقرأها بلغة أجنبية؛ والسبب اليقيني في ذلك أن هذه الرواية فازت بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) وكان من بين امتيازها بالفوز بالبوكر ترجمتها للغة أجنبية أخرى.
وفي الجوائز العالمية للإبداع الإنساني يتّجه المُحكِّمون في لجانها إلى سبر أغوار العمل المُقدّم وتمحيصه جيدًا، مع الاعتماد على جودة المحتوى ليخرج التقييم نزيهًا بعيدًا عن الشبهات.
وحتى يُقدّر للعمل الناجح الخروج للنور في أبهى حلّة لابد من أن تحرسه الأيدي الأمينة ويقدّمه للناس لجان التحكيم البعيدة عن الشبهات.
وبالنظر لحياة الإمام الصادق عليه السلام كمؤسس للمذهب الجعفري الاثني عشري
نلحظ كفاءته الأدبية ومنهجه التقييمي الرائع كباحث أدبي يرى الأدب بشقّيه ضرورة للثقافة الدينية بل يعتبره ضرورة تعزيزية لمكارم الأخلاق في نفوس أصحابه.
ويرى الإمام الصادق عليه السلام أنّ الأديب هو الذي يُبدع أثرًا في النظم أو النثر.
والذي لاشك فيه أنّ الإمام الصادق شجّع الأدب بنوعيه المنثور والمنظوم وعيّن جائزة له وقد كان الإمام عليه السلام يقود لجنة التحكيم بنفسه فكان ذلك من عوامل انتشار الأدب وذيوعه في عهده.
لقد كان الإمام الصادق من القلائل الذين أولوا العلم والأدب اهتمامًا كبيرًا واستوى عنده طالب العلم بطالب الأدب ولولا مدرسة الإمام الصادق وتشجيعه الشخصي لجميع جوانب العلم والأدب لما ازدهرت العلوم في العالم الإسلامي في القرنين الثالث والرابع الهجري.
وفي التاريخ الإسلامي يعتبر الإمام الصادق أول من نظر في الروايات والتاريخ بعين النقد والتمحيص، فكان بذلك قدوة وإمامًا ومرشدًا لإمام المؤرخين ابن جرير الطبري الذي آلى على نفسه ألا يُسجل إلا الرواية الثابتة وما يقبله العقل.
هذا فضلًا عن الكثير من الرواة والكتّاب الذين تتلمذوا على يديه والذين بلغ عددهم أربعة آلاف من الرواة وكان من أشهرهم أبو حنيفة النعمان ومالك وسفيان بن عيينة.
أما إذا تحدثنا عن اتصاله بالثقافات الأخرى فسوف تقابلنا لغاته المتعددة التي من بينها الفارسية لغة جدته شهربانو بنت كسرى يزدجر أم الإمام زين العابدين واللغة السريانية والنبطية التي مكّنته من الاتصال الوثيق بالثقافات الأخرى ونقلها لمدرسته التي كان شعارها حرية الرأي والفكر.
هذا هو الإمام الصادق الباحث الأكَادِيمِيّ صاحب البحوث الأكَادِيمِيّة المتعددة التي انبعثت منها حركة التجديد العلمي في تاريخ العالم الإسلامي بعيدًا عن المغالاة في العقيدة وعن الخلاف والعزلة.
المصدر:
الإمام الصادق كما عرفه علماء الغرب.
نقله للعربية:
الدكتور نور الدين آل علي.