“الوطنية من أنبل القيم وأسماها، وأرقى ترجماتها تكون بالأفعال. لكن أحد أكثر تجلياتها المتطرفة سلبيةً وتدميراً يقود بأصحابه لنصب محاكم التفتيش والتخوين والمزايدات. هنا تفقد الوطنية وظيفتها المرغوبة كوقود لبناء الأوطان والدفاع عنها، وتتحول إلى معول هدم يفتّت النسيج الاجتماعي الداخلي”.
التغريدة السابقة، نشرها الأمير عبدالله بن خالد في حسابه على منصة “تويتر”.
عبدالله بن خالد، أستاذ في “جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية”، وسبق له أن ترأس “إدارة البحوث” التابعة لـ”مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية”، أي أن الحديث التحذيري من “الوطنية المتطرفة” صادر من شخص له خبرته في متابعة الخطابات الأصولية والعنصرية، وأثرها السلبي على المجتمعات وتماسكها، ومدى الضرر الذي تحدثه بالسلم الأهلي.
منذ العام 2011، وحتى الآن، تصاعدت نبرة لدى مجموعة من المعلقين في وسائل الإعلام التقليدية، تتناغم مع رهطٍ من الناشطين في منصات التواصل الاجتماعي، أخذت تتنافس فيما بينها حول مفهوم “الوطنية”، والولاء للوطن، والدفاع عنه، والرد على من يتعرض بالنقد له. وهو التنافس الذي عِوض أن يتحول لنوع من “التثاقف”، ويثير أسئلة معرفية، ونقاشات حرة بشكل علمي، تثري المتابعين، استحالت إلى نوعٍ من المزايدات، ومحاولة مجاراة الأصوات الأعلى، وكلما ارتفع صوت، سعى الآخر لأن يكون أكثر دوياً منه، في دائرة مفرغة من الضجيج المتتالي!
مشكلة كثير ممن هم في هذا الفريق، أن بضاعتهم المعرفية قليلة، وليس لديهم وعي سياسي أو حقوقي أو اجتماعي. كما أن قدرتهم على التحليل المنطقي وفهم التاريخ محدودة، فضلاً عن غياب بعد النظر في كثير من مواقفهم.
مفهوم “المواطنة” ليس أهزوجة تردد، أو أبيات شعر وأغاني يطرب الإنسان ويرقص لها. هو نتاج أعمال تراكمية لفلاسفة ومفكرين طوال عقود من الكتابة والتجريب والمكابدات: جان لوك، جان جاك روسو، توماس هوبز، جون رولز، وسواهم من الباحثين الذين كانت أفكارهم محل نقاش علمي مستمر حتى الساعة دون انقطاع. لأنها أفكارٌ تفتح آفاقاً جديدة للمقولات الأولية التأسيسة: ترسخُ بعضها، وتنقض أخرى، وتجترح أيضاً نظرياتها الخاصة.
إن “الوطنية” ليست موقفاً تبجيلياً، ينفي المُختلف، ويرفض أي خطاب نقدي، ويعتبر أي رأي خاص بمثابة “الخيانة”. هذه الممارسة هي ضربٌ من الأحادية في التفكير، وهي تتماهى مع السلوك الذي يمارسه الأصوليون في الحركات العنيفة!
الوطنيون الجدد، إحدى مشكلاتهم أنهم لا يعون تاريخ وطنهم. وأن هذا الكيان الذي يترسخُ يوماً بعد آخر، بني بجهد العقول المتنوعة، والآراء الصادقة، ووجهات النظر المتعددة، التي كانت تصدقُ القيادة السياسية في مشورتها، وتقدمُ مصلحة الوطن على منافعها الشخصية، ولا تتصرف بانتهازية وخفة.
قليلٌ من البصيرة فيما يجري حولنا من تقاتلٍ وفوضى، كفيلٌ بأن يُعلم هؤلاء الرهط، بأن الإقصاء والتفرد لا يولدان إلا الكراهية، التي هي وقود العنف والخراب.
الوطنية، ليست حكراً على أحد؛ هي كل هذا الشعب، بآرائه المتعددة، وثراء تنوعه.
المصدر: صحيفة الرياض