تنبؤات درامية أم سينما متواطئة.. 32

رواية “عيون الظلام – 1981” للكاتب الأمريكي دين كونتز، سوقت إعلامياً خلال الشهور الماضية على نطاق واسع أكثر من أي رواية أخرى، وعرفها القاصي والداني، وحتى الذي ليس له علاقة بعالم الروايات عرف عنها.

أصبح عنوانها متداولاً على كل لسان لأن حكايتها قورنت بما يحدث للعالم الآن، وقد سارعت دور نشر في عدة دول لترجمتها بلغات عدة، ولم تترجم للعربية في كتاب مطبوع مستقل، لكن يوجد لها ترجمة صوتية حديثة في أحد المواقع العربية، وهي مرفوعة على قناة يوتيوب باللغة الإنجليزية صوتياً منذ بداية 2018.

حقيقة رواية “عيون الظلام” مثيرة للشك والريبة والاهتمام، وعنوانها يسترعي الانتباه ويستدعي رواية قديمة صدرت قبلها بـ 80 عاماً اسمها “قلب الظلام” للروائي البريطاني الشهير جوزيف كونراد – الصادرة سنة 1899، رواية تدور أحداثها في قلب أفريقيا، رائعة في سردها، وشكلت مفصلاً في عالم الرواية الحديثة وقد تأثر بها روائيون كثر ومنهم عرب، لكنها تمثل ازدواجية في سرد حكايتها، تارة مع المستعمر وأخرى ضده، وأيضاً محملة بعنصرية مقيتة ونظرة فوقية اتجاه الإنسان الأفريقي والذي اتهمته بالتخلف والهمجية، وقد اعتبر نصها من ضمن روائع الأدب الإنجليزي.

رواية كونراد لم تغفل عنها هوليوود، فقد استلهمت فكرتها وأخذت بعضاً من جوانبها، في فيلم سينمائي أطلقت عليه “Apocalypse Now القيامة الآن – 1979″، فيلم حربي بامتياز استبدل مكان الرواية من دولة الكونغو حيث مسرح الحدث يدور في أعالي النهر، من أجل تجارة العاج إلى أن دولة فيتنام، نحو أرض ملغومة بالمخاطر والهلاك بين الدماء وتضاريس الأرض الوعرة والدمار، وذلك تجميلاً لغزو الجيش الأمريكي ضد بلد آسيوي فقير ومعدم إلا من الشجاعة وقوة البأس، صراع أيدولوجيات لحرب اشتعلت منذ 1955 وانطفأ أوارها 1975.

عشرون عاماً من المعارك الطاحنة بين الأدغال والأحراش والبحار والأنهار وحرب العصابات، قصف عنيف كرش المطر بقنابل النابلم التي كانت تشوي لحوم الفقراء وهم يتصارخون في العراء، ألقتها أم الديمقراطية المزعومة بجيوشها الجرارة والمزلزلة بعنف وصخب وقسوة، استعراض قوة تفوق الخيال بلا هوادة ولا رحمة، جنرالات ورتب عسكرية طوت آلاف الأميال، أتت غازية لتقاتل قوات الشمال الشعبية الفيتنامية المتبنية للفكر والعقيدة الشيوعية! حرب شرسة ومروعة ودامية ترجمتها السينما بالكيفية التي يراها كل طرف.

مشاهد من فيلم “القيامة الآن” تدمي القلب لصور مرعبة، لكن الواقع أكثر فظاعة ومرارة، وعبارات مجانين الحرب في الفيلم تختصرها كلمة ذلك الجندي الأمريكي المهووس بالقتل والفتك وهو يتبجح أمام زملائه الجدد، وبعد أن أفرغت طائرتهم الحربية حممها على مجاميع الشجر والبشر، يوجه كلامه لأحدهم وهو واقف على ضفاف شاطئ البحر “هل تشم هذا النابلم، لا شيء في العالم رائحة كهذا، أحب رائحة النابلم في الصباح، أتدري ذات مرة فجرنا تلاً لمدة 12ساعة”؟!

وخارج دراما الفيلم لم تكن “الحرب الهندوصينية” نزهة بل جحيماً وقيامة، إن هذيان القوة والغطرسة والغرور لآلة حربية ظن أصحابها أنها لا تقهر، وما بين كر وفر تآكلت في نهاية المطاف.

لقد مرغ الفيتناميون أنف الغازي المحتل وكل من وقف معه، غاصوا في وحل أرض نبذت كل مستعمر، وكل من اصطف عدواناً في تلك الحرب العبثية.

انتصر الجندي الفيتنامي المؤمن بعدالة قضيته دفاعاً عن أرضه برغم انقسام الشعب بين شمال وجنوب، بين أكثرية مقاومة وجزء متعاون مع المحتل، والذي تخلى عنهم وفر هارباً بعد أن سقطت “سايغون” ورفعت رايات النصر وسط جررة أذيال الخيبة الأمريكية، ولم تزل تلك الراية الحمراء خفاقة في سماء فيتنام إلى اليوم.

إن حرب فيتنام مهلكة مدمرة بكل المقاييس اشتركت فيها عدة دول بالدعم والعتاد والرجال والخطط، خلفت مليون قتيل فيتنامي، مقابل ستين ألف أمريكي)، إن انتصار فيتنام لم يكن سهلاً بل مكلفاً وباهظ الثمن على جميع المستويات.

لقد ذلت أمريكا في حربها الخاسرة وتحطمت نفوس جنودها وباتوا في الحضيض، وقد أصيب كثير منهم باكتئاب وأمراض نفسية والمخدرات كانت الملجأ لهم من كوابيس الهزيمة، عندها أصبحت أمريكا مصابة بعقدة اسمها “عقدة فيتنام” تبددت نوعاً ما في حروب الشرق الأوسط المستحدثة (غزو العراق وأفغانستان).

حربان شنتهما أمريكا في بداية الألفية الثالثة على بلدين منهكين من الحروب تحت ذريعة محاربة الإرهاب الإسلامي، خداع لم يكن خافياً على أحد.

بالأمس جير ساسة أمريكا الجهاد الإسلامي بكل حمولته العقائدية، لمحاربة الغزو السوفيتي لأفغانستان – 1979، حشد من رجال وشبان من أقطار العرب اندفعوا تضحية من أجل الحمية عن دار المسلمين البعيدة متناسين القريبة، ثم أصبحوا وقوداً لمحرقة أرض الأفغان باسم محاربة الشيوعية والنصر للإسلام، وبعد أن قدموا أرواحهم ودماءهم فداء للممول الأمريكي وحين استشعر بأن صلاحيتهم انتهت، أجهز عليهم وعلى ما تبقى من رماد المحرقة.

من يطالع “فيلم رامبو-3” وهو يناصر الأفغان ضد السوفييت زمن الثمانينات وقت اشتداد أوار المعارك، يظن جازماً أنه جاء لنصرة المظلوم وإغاثة الملهوف ولا يخالجه شك في ذلك، هكذا دراما الفيلم كانت تقول، والظن عند القوم أكبر فقد أسبغوا على رامبو كرامة الأبطال لأنه ناصر جهاد الأفغان ورافع راية الإسلام، بعد أن تلفظ معهم بعبارة لا يحسن نطقها (إن شاء الله) وهو يخوض معاركه العنترية الكرتونية ويخلصهم من قبضة الغزاة، بل الإيمان بقضيتهم ينضح من رسالة الفيلم التي انطلت على الجميع، وبتأكيد مطلق عند نهاية الفيلم كتبت جملة تقول “هذا الفيلم مهدى إلى الأبطال الشجعان في أفغانستان”!

ولكن هؤلاء الذين اعتبرتهم شجعاناً بعد عقد ونيف استدارت عليهم آلة الحرب الأمريكية، واحتلت أرضهم بدلاً من السوفييت ونكلت بهم أشد تنكيل، وهنا انطفأ صوت الجهاد المزعوم.

والأدهى والأمر ذات السينما التي هللت بالأمس للثوار سخرت من العرب والمسلمين أثناء الغزو الأمريكي لأرض أفغانستان والعراق، وتعالت أصوات فضفاضة اتهمت هوليوود وشركات الإنتاج الأمريكية بالتضليل والأكاذيب والخداع.

عجباً لانتفاضة فضفاضة ضد رسم كاريكاتوري قيل بأنه مسيء، بينما سينما هوليوود قدمت ما هو أفظع واشنع من تلك الخطوط العابرة، ولم يرتفع ضدها صوت أو شكوى، لأنها بكل بساطة هوليوود علامة مسجلة أمريكية.

فم مغلق وسط تصفيق حار باحمرار اليدين بصدى لا يسمع.


error: المحتوي محمي