إن أهم العقبات التي تواجه تسويق الأغذية هو حجم الفواقد في المواد الخام الزراعية، وتقدر بـ50% وأكثر من الكميات المنتجة بسبب عوامل الفساد المختلفة “بيولوجية أو طبيعية أو كيميائية”، ذلك يعني هدراً اقتصادياً واستنزاف جهود كبيرة في الإنتاج وتوفير الغذاء.
إن بالإمكان تقليل هذه الفواقد باستخدام الطرائق المناسبة في الحفظ والنقل والتداول والتخزين، غير أن الطرائق التقليدية في الحفظ، وخصوصاً بعد التوسع الهائل في استخدام المواد الكيميائية في مراحل الإنتاج والتصنيع وحتى وصول المنتج الغذائي إلى مائدة المستهلك، أصبحت معرضة للشكوك وللتساؤلات حول علاقة هذه المواد بصحة الإنسان، وأوجدت الحاجة إلى طرائق بديلة تقلل من عوامل الفساد والتلف.
مجرد طرح تقنية حديثة في مجال التصنيع الغذائي نجد أن الأمور محفوفة بالأخطار، بداية من الإعداد والتصنيع، مروراً بما قد يتعرض له الغذاء أثناء التداول والتخزين، تظهر لنا بما يعرف بمتشابكات العلوم والتقنيات التي أخرجت لنا أغذية لها خصوصية مَرَضيّة، ثبت ضررها على الصحة.
في خضم هذه التقنيات ظهر ما يعرف بتقنية التشعيع التي حازت على قبول واسع لدى الأوساط المنتجة للمحاصيل الزراعية، وذلك لسبب دورها في حماية المحاصيل من الإصابات الفطرية والحشرية.
تقنية التشعيع هي إحدى طرائق حفظ الغذاء في الوقت الحاضر، فبرغم وجود عوائق تمنع انتشار هذه التقنية، إلا أنها أضافت إلى الغذاء تحسينات لا تنكر، هذا ما دفعنا للتحدث عن معالم هذه التقنية، ومخاطر التلوث الإشعاعي، ونضع في الاعتبار اشتراطات المواصفات القياسية والمستوى الإشعاعي المسموح به.
قبل البدء، يجب أن نفرق أولاً بين مفهوم التلوث الإشعاعي ومفهوم تقنية التشعيع لوجود خلط بين المفهومين، فالتلوث الإشعاعي هي أنشطة ناتجة من حروب وتفجيرات نووية وحوادث نووية إشعاعية مثل حادث شرنوبل عام 1986 م في الاتحاد السوفيتي سابقاً، وحادث التلوث الإشعاعي في البرازيل عام 1987 م، وقد أدى الحادث الأول إلى جعل المنتجات الغذائية والزراعية نشطة إشعاعيا؛ بسبب تعرضها لنواتج مفاعلات نووية في شكل نيترونات أو جسيمات “ألفا وبيتا”، أدت إلى تلوث البيئة وهذه المنتجات، وبالتالي خطر استهلاكها بسبب خطورتها على الصحة، وهذا يفسر التلوث الإشعاعي للأغذية، هو ما جعل الكثير من دول العالم ومنها المملكة العربية السعودية تضع مواصفات قياسية تحدد المستويات القصوى المسموح بها في المنتجات الغذائية تكفل حماية الإنسان والحيوان من مخاطر التلوث الإشعاعي، وحرصت مختبرات الهيئة العامة للغذاء والدواء بفحص معظم الأغذية المستوردة للتأكد من خلوها إشعاعياً.
أما مفهوم تشعيع الأغذية أو غذاء محفوظ بالتشعيع: فهو تعريض الغذاء إلى أحد مصادر التشعيع مما يؤدي إلى امتصاص الغذاء لجرعة محددة وفعالة لهدف حفظ الأغذية وتقليل الفاقد وإطالة فترة صلاحية الغذاء بالقضاء على مسببات الفساد.
أصبحت تقنية التشعيع في وقتنا الحاضر من الطرائق المتبعة في حفظ الأغذية، وتتميز بأنها سريعة وقليلة النفقات، وقد لا تسبب أي أثر ضار للإنسان، كل ذلك بدون رفع درجة حرارة الغذاء ولهذا السبب يطلق عليها بالتعقيم البارد، والفعل الحافظ للإشعاع هو تنشيط أو تحطيم خلايا البكتيريا والكائنات الحية الدقيقة الأخرى الملوثة للغذاء، فعند تعريض المنتجات الزراعية والغذائية إلى أشعة جاما المؤينة عديمة الكتلة، ذات الطاقة العالية في صورة جرعة مقننة مرخص بها ولفترة زمنية معينة داخل وحدة تشعيع محكمة لتحقيق القضاء على الأطوار الحشرية المختلفة في الحبوب المخزونة والتمور والبقوليات والتوابل وغيرها، وكذا إزالة التلوث الميكروبي والميكروبات الممرضة والطفيليات في اللحوم والدواجن والأسماك، وإطالة فترة صلاحيتها، كما يستخدم التشعيع في منع الإنبات أو التزريع في البطاطس والبصل والثوم وإطالة فترة صلاحيته، وتأخير النضج لبعض ثمار الفاكهة، وفي تعقيم بعض الوجبات الغذائية لمرضى نقص المناعة البيولوجية في المستشفيات.
لقد ساهم التطور الكبير في تطبيقات تقنية تشعيع الأغذية في تقليل نسبة الفواقد وتقليل الاعتماد على المواد الكيميائية المستخدمة في حفظ المنتجات الغذائية والزراعية، كما كان له دور في الحد من أمراض التسمم الغذائي الناتجة عن الميكروبات الممرضة.
وتطبيقات تقنية تشعيع الأغذية عموماً يمكن تقسيمها إلى ثلاثة فئات طبقا للجرعات الإشعاعية المستخدمة في عملية المعالجة الإشعاعية وهي:
أولاً – تطبيقات الجرعات المنخفضة ( أقل من 1 كيلو جراي -GRAY وحدة قياس الجرعة الإشعاعية)، وهي تشمل تطبيقات تثبيط النمو (التبرعم أو التزريع)، تأخير النضج، إزالة الحشرات والطفيليات.
ثانياً – تطبيقات الجرعات المتوسطة (فى المدى 1 – 10 كيلو جراي)، وعادة ما تشمل التحكم في الأمراض المنقولة عبر الغذاء وتلف الأغذية.
ثالثاً – تطبيقات الجرعات العالية (أكثر من 10 كيلو جراي) وهي التطبيقات التي يتم فيها تعقيم الأغذية.
• بعد إجازة الجهات الرسمية بقرار مجلس الوزراء رقم 263 وتاريخ 23 / 10 / 1422هـ القاضي بالموافقة على تقنية تشعيع الأغذية والسماح بدخول الأغذية المحفوظة بالتشعيع تحت ضوابط صحية، أعدت الهيئة العامة للمواصفات والمقاييس عدداً من المواصفات في هذا المجال، حيث تم تحديد جرعات إشعاعية آمنة وضعت في مواصفة رقم GSO 988/ 1998
وتنص التشريعات الدولية واللوائح الفنية الخليجية على إلزام المستورد بوضع شعار دائري أخضر اللون مميز على عبوات الأغذية المشععة وعبارة “إن الغذاء معالج بالتشعيع”.
• يجب أن يمتص ما نسبته 97.5% من حجم المنتج جرعة إشعاعية ممتصة أقل من 15 كيلو جراي، وذلك عندما يكون المتوسط الإجمالي للجرعة 10 كيلو جراي، “م ق س 2315 / 2005”.
• يجب ألا تزيد حدود المستويات الإشعاعية المسموح بها في المواد الغذائية على الحدود التالية:
10 بيكريل/ كغم أو لتر ماء.
30 بيكريل/ كغم أو لتر حليب، وفي أغذية الأطفال.
75 بيكريل/ كغم أو لتر في بقية المواد الغذائية.
300 بيكريل/ كغم للأعلاف.
“بيكريل becquerel وحدة قياس النشاط الإشعاعي، “GSO 988 / 1998”.
من منطلق حاجة صناعة التمور إلى توفير وسيلة بديلة بعد تحريم استخدام غاز بروميد الميثيل عالمياً، وكان هذا الغاز هو المستخدم سابقاً لتعقيم التمور من الحشرات، تم إدخال تقنية التشعيع في صناعة التمور للحفاظ على جودة هذه الثمرة.
هنا لا بد من البحث والتدقيق في مجال السلامة، لا يكفي وضع الضوابط وتحديد الجرعات الإشعاعية المسموحة، فهناك نواتج تحلل ناتجة من التشعيع أو انحرافات في إطلاق الجرعة الإشعاعية، قد تشكل خطراً على الصحة العامة، وأيضاً تواجد مئات المنشآت الصناعية حول العالم لتوليد أشعة جاما لتشعيع المنتجات الزراعية والغذائية وغيرها من المنتجات التي لها آثار بيئية ملوثة، هذا ما جعل الكثير من المستهلكين لا يقبلون على شراء الأغذية المشععة نظراً لخصوصية تأثير المواد المشعة الضارة بجسم الإنسان.
إن طبيعة الأشعة المستخدمة في تقنية التشعيع قد تعرض الأغذية لظاهرة إشعاعية خطرة، إذا لم تستخدم بالطبع الجرعة الإشعاعية المناسبة والمصدر الإشعاعي المناسب، وتأثيراتها على الخواص الحسية والطبيعية والكيميائية للأغذية، وبالتالي تأثيرها على القيمة الغذائية مثل فقد بعض الفيتامينات مقارنة بطرائق الحفظ التقليدية الأخرى.
ولكون المعالجة الإشعاعية بغض النظر عن الجرعة أو المنتج أو مجال التطبيق تشكل هلعاً للناس، وخوفهم من أن يكونوا تناولوا جرعات إشعاعية غير آمنة، قد تؤدي إلى تأثيرات غير مرغوبة لها علاقة بصحة الإنسان.
وختاماً، إن الصورة الذهنية التي تأتي في مخيلتنا حين نسمع «إشعاع» تؤدي بنا إلى رفض ما يتعلق به، لكن الحقيقة أن تشعيع الأغذية تتطلب إجراءات وقائية وتدقيق في مجال السلامة عند تحديد الجرعات الإشعاعية، خوفاً من حدوث انحرافات عن المعدل المسموح به، من هنا أصبحت الأغذية المشععة تباع بعلم المستهلك من أجل تبديد مخاوفه.
منصور الصلبوخ – اختصاصي تغذية وملوثات.