النقد الحرام 2

كثيراً ما يتداول الناس كلمة النقد ويستخدمونها بمعنى إظهار العيوب، فعندما تسمع أحداً يقوم برفض سلوك ما بسبب أمر لا يستحسنه على العكس منك فسوف تقوم بالرد عليه باستخدام هذه العبارة؛ “نقدك غير صحيح”، وستقصد من خلالها أن ما أظهرَه من جوانب سلبية لا واقع له.

على العكس تماماً لو عكسنا الفرض وكان الحديث عن إظهار محاسن السلوك والإشادة به فسوف لن تستخدم لفظة “النقد” في حالة إظهار معارضتك ولن تقول “نقدك غير صحيح” لأنه لم ينتقد السلوك وإنما مدحه.

إن هذا التداول أبعد الاستخدام والاصطلاح اللغوي الأفضل لكلمة النقد. فالنقد من الأفضل أن يستخدم لمعنى أعم من إظهار العيوب والجوانب السيئة، بل ينبغي أن يستخدم لتحليل الموقف الشخصي أو الاجتماعي تجاه شيء معين أو سلوك معين من خلال إظهار المحاسن والمساوئ حيادياً وموضوعياً ومن ثم الوصول إلى ترجيح شخصي وفقاً لأسباب يقدمها المنتقِد، ولذلك سأعتمد هذا المعنى في هذه المقالة.

النقد الصحيح
أقصد بالنقد الصحيح ليس صحة نتيجة النقد فهي نسبية شخصية على أفضل الأحوال، ولكن أقصد به صحة عملية النقد. ومن أهم شروط صحة عملية النقد التالي:

1. الإلمام التام بموضوع النقد.
2. الحيادية والموضوعية.
3. التسلسل المنطقي الصحيح.

وعليه وتحقيقاً للشرط الأول وهو الإلمام التام بموضوع النقد، فإن التخصص يبدو شرطاً من شروط النقد الصحيح؛ إلا أنَّ هذا البُدُوَّ ليس صحيحاً فالمشروط هو الإلمام وليس التخصص، فلو مثلاً أراد عَمرُ معلم اللغة العربية أنْ ينتقد طريقة تشخيص زَيدٍ الطبيبِ لمرض فقر الدم المنجلي، ما عليه سوى الرجوع للإجراءات المعتمدة لدى الهيئة الطبية أو لدى أمهر الأطباء ومقارنتها بتلك التي اتخذها الطبيب زيدٍ وطرح الأسئلة عليه لمعرفة سبب عدم اتباعه للإجراءات الموصى عليها، فإذا تبين خطأه ووجد عَمرُ أن الحالة متكررة بشكل ملفت في مجتمعه جاز له انتقاد الغفلة والهفوة التي انتشرت ما بين الأطباء وقدم لهم حلولاً لعدم تكرارها.

هنا نسأل الذي يقصرون النقد على المتخصص؛ ما الخطأ في انتقاد عَمرٌ؟؟؟ طبعاً لا خطأ سوى الحكم بخطئه.

والأمر هو نفسه في كل المواضيع بلا استثناء، فلو استطاع أي شخص أن يحقق الإلمام والموضوعية والتحليل المنطقي الصحيح باستخدام الأدوات العلمية المناسبة للمنهج العلمي الذي ينتمي إليه الموضوع جاز له النقد ولا خطأ في ذلك؛ وهذا بخلاف الناقد الذي ليس له إلمام أو ليس حيادياً أو لا يتبع التحليل المنطقي الصحيح أو لا يجيد استخدام الأدوات المعرفية المناسبة للموضوع فإن انتقاده لا شك خاطئاً وعبثاً في الفكر وفي الأمانة العلمية.

إذاً ما هي المشكلة الحقيقية التي جعلت البعض يتشدد في متطلبات النقد؟؟؟

إنَّ المشكلة الحقيقية في نظري كانت بوجود تجارب اتصفت بأمور ثلاثة:

1. كان فيها النقد في الدين وعلى الأخص في تلك المواضيع التي يخلف نقدها شروخاً في العقيدة أو الوحدة المذهبية الخطيرتين.
2. كان الناقد فيها غير مستوفٍ لشروط الناقد الصحيح.
3. كان النقد ركيكاً ومشوشاً لعلوم الشريعة والعقيدة ولم يجن من نقد الناقد سوى إشغال الناس بآراء ضعيفة وركيكة بدل المحافظة على ثبات معتقداتهم وأعرافهم التي بذل المتقدمون الغالي والرخيص من حياتهم لإقامتها.

مما جعل المتدينين الغيورين على دينهم يقومون بردة فعل شديدة حماية له، وذلك برفض النقد الصادر من غير العالم مطلقاً، وقصر النقد على المتخصصين بل قصره فقط على عملية الاجتهاد ولا يقبل إلا في مواضيع معينة بينما يُحرَّم في المواضيع الأخرى؛ من هنا نجد ما يمكننا أن نصفه المصدر الأول للتوجس والخوف من النقد الصادر من غير المتخصص؛ إلا أني لا أوافق ذلك وأرى أن النقد منه ما هو مقبول ومنه ما هو مرفوض؛ فالنقد المستوفي للشروط هو مقبول وجائز اجتماعياً وعلمياً وإن أخطأ في نتيجته.

ولا يجب علينا التضحية بما هو أساس للفكر الحي بسبب إساءة استخدامه من قبل آخرين؛ ولهذا ينبغي علينا في رأيي أن نصلح نظرتنا اتجاه النقد وتفعيله في ثقافتنا لرفع المستوى الثقافي والعلمي للمجتمع ولإحياء الفكر فيه سواء كان الناقد عالماً متخصصاً أو أمياً غير متخصص؛ فمساهمة الجميع في طرح الحلول ومناقشة المسائل ما هي إلا جمع للعقول وإثارة لدوافنها يستفيد منه المتخصص وغير المتخصص إذا أحسنا النقد وقراءته وأحسنا التفاعل الحميد إزاءه.



error: المحتوي محمي