خلال حِقَب الزمن، طوّر الإنسان الصناعات الإنتاجية، وفي كل مرحلةٍ من المراحل الزمنية، أحدثَ نُقلةً مهمة، وخلقَ تحولاً نوعيًا في حياة الناس، وأسهم دأبه العلمي والبحثي في تعميق معرفة الإنسان وصناعة الفوارق الإيجابية لصالح البشرية.
ففي القرن الثامن عشر، ونتيجة للنهضة العلمية التي شهدتها أوروبا، ابتكر الإنسان الآلة واستخدمها بدلاً من اليد في الصناعة، واستخدم السكك الحديدية للنقل بدلاً من الدّواب، وازدهرت نتيجة لذلك الصناعات بمختلف أنواعها، وأُطلِق على تلك الحقبة الثورة الصناعية الأولى، ثم أتت الثورة الصناعية الثانية في القرن التاسع عشر، حيث تم اكتشاف الكهرباء وتطوير خطوط الإنتاج، وتزامن ذلك مع اكتشاف النفط، ثم جاءت الثورة الصناعية الثالثة في النصف الثاني من القرن العشرين حيث تم اختراع الحواسيب واكتشاف الإنترنت.
وتعاظمت ثورة الاتصالات، وغزت معظم نواحي الحياة، وقد أحدثت كل ثورة من الثورات الصناعية السابقة تحولات جذرية عبر الأوطان اقتصاديًا واجتماعياً، وزعزعت بعض المفاهيم السائدة حينذاك، ولكن العبقرية الإنسانية وفي سعيها الدائم للتطوير طوّرت تقنيات جديدة في محاولة للتصدي للتأثيرات السلبية، على سببل المثال لا الحصر، تغير المناخ، والتلوث البيئي، وإقدام الإنسان على إيجاد حلول لذلك باستخدام تقنيات الطاقة المتجددة، والحد من إطلاق الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وسن التشريعات اللازمة للحد من التلوثات البيئية بأنواعها، وذلك سعيًا لمعالجة تعارض المصالح الدائم بين التنمية والبيئة، بهدف تقليص الآثار السلبية للتنمية على البيئة، إذ أن التعارض بينهما قائمّ ومُستمر.
وها نحن الآن نخوض غِمارَ ثورةٍ صناعية رابعة سيكون التحول فيها هائلًا وغير مسبوق، حيث يصفها السيد كلاوس شواب، المؤسس والرئيس التنفيذي للمنتدى الاقتصادي العالمي في داڤوس: “إن حجم التحول ونطاقاته وتعقيداته سيكون مختلفاً عما شهدته البشرية من قبل”، حيث يتوقع أن تطغى على عالمنا تقنيات الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والطباعة ثلاثية الأبعاد، وإنترنت الأشياء، والمركبات ذاتية القيادة، وستتولد قدرات تقنية كبيرة على تخزين المعلومات، وستصبح مفاصل حياتنا عامرةً بمثل هذه التقنيات، وسيزداد القلق من تقليل عدد ونوع الوظائف في المستقبل، التي ستقوم بها الآلة عوضًا عن الإنسان، وربما سيؤثر تزايد تطبيقات الذكاء الاصطناعي سلبًا على تعزيز القدرات الابتكارية للإنسان، وقد تصبح بعض الاَلات أكثر ذكاءً من الإنسان، والحال أن أجهزة الذكاء الاصطناعي ستصبح إن لم تكن بالفعل، في طور محاكاة الذكاء العاطفي والانفعالي للبشر، لتتقمص الأدوار التي كان يقوم بها الإنسان، ناهيك عن التأثيرات الاجتماعية وإضعاف عُرى التماسك الاجتماعي، وهناك شواهد كثيرة على أن وتيرة الابتكارات السريعة في هذا العصر الرقمي قد تتجاوز قدرة الإنسان على الاستجابة الفورية لتقنينها أو تنظيمها في الوقت المناسب.
وهنا يُطرح التساؤل؛ هل للتكنولوجيا ثمن؟ لاشك أن حياة الشعوب أصبحت أكثر سهولةً وراحةَ جرّاء التقدم الهائل في التقنيات الرقمية، وهذه التقنيات ماضية في التطور والتقدم، ولا يمكن إيقافها فالتطور هو دأب الحياة، ولكننا نزعم أنه لابد من سّن ضوابط منطقية لاستخدامها، وقد يختلف العلماء والباحثون في هذه الضوابط وطبيعتها، ولكن يجب أن يتم تقييم الكلفة والفائدة، وتقنين المخاطر، والعمل على تقليل تكلفة هذا الثمن الذي يدفعه الإنسان، وخصوصًا فيما يتعلق بمشكلة التعدي على خصوصياته، والتعرف على سلوكه الاستهلاكي مثلًا من قبل شركات التسويق لكي يتم استغلاله تجاريًا، فضلًا عن تأثر أمنه الاجتماعي والنفسي، بالإضافة لتحديات الاختراقات الأمنية السيبرانية، وغيرها من الآثار السلبية الأخرى، وذلك عبر سن التشريعات والضوابط، وأخلاقيات العمل التي تحكم تقنيات الذكاء الاصطناعي في المجتمعات.
ويطالعنا موقع منظمة الأيزو العالمية (ISO) الإلكتروني بأنه يتم إعداد مواصفات قياسية عن طريق لجان متخصصة من خبراء عالميين من مختلف الدول، بهدف وضع ضوابط في أخلاقيات التعامل مع منتجات الذكاء الاصطناعي، وتقنين الأبعاد الاجتماعية لها، وإدارة المخاطر الناجمة عنها، ومتطلبات الجودة، وحوكمة الأداء، إلى غير ذلك من بنود ذات علاقة، وقد شارف بعضها على الانتهاء لتدخل مرحلة الاعتماد ، وجار العمل على عدد آخر منها وحتمًا سيتم تبنيها في المحافل الدولية لاحقًا، وتطبيقها على مستوى الدول على هيئة سياسات وتشريعات ملزمة.
والخلاصة أن هناك حاجة إلى حوكمة تقنيات العالم الرقمي، وأخلاقياته، وضرورة أن يظل هذا الهاجس حيًا مادام التطور الرقمي مستمرًا.
إن الرغبة في ولوج أبواب المعرفة، والحرص على إحراز التقدم المعرفي هو مبعثٌ لسعادة الإنسان على مر العصور، وستظل نوافذ الإنسانية تنفتح على آفاقٍ ومجالات جديدة من المعرفة والابتكارات المفيدة، وما نحتاج إليه هو ترسيخ الوعي الأممي لإقامة التوازن بين تطوير التقنيات، وتنظيم استخدامها، لتعظيم المنافع وتقليل المضار، لصنع مستقبل أفضل.