نرى شخصاً صحيحاً معافى تماماً، يواصل حياته بنشاط، فإذا به يموت فجأة بدون علامات حيوية واضحة، فكيف وقع ذلك؟!
إن أغلب التسممات الغذائية ليست مفاجئةً كما يظن البعض، بل هي متأصلة فيه منذ زمن طويل، ولكن عوارضها الأولية لا يشعر بها؛ وقد تتأخر إلى أشهر أو سنوات كما هو الحال في السموم الفطرية، بسبب قدرة الجسم على تحمل مقدار معين من التراكمات السمية، والتي بعدها لا يمكن للجسم تحمل زيادة تركيز المادة
السمية.
إن الجسم يقاوم طويلاً – وبنجاح – التصرفات السيئة، لكن الحالة تختلف في السموم الفطرية.
إن مثل هذه الحالات تشعرنا بالحاجة الفعلية إلى درجة واضحة من الأمان، لنتجنب الخطورة التي قد تسببها كلتا الحالتين، السمية الحادة Acute Toxicity، والسمية المزمنة Chronic Toxicity التي تظل أعراضها مختفية لفترات طويلة قبل أن تظهر تأثيراتها السمية، تلك السموم تؤثر في عمل خلايا الكبد، وهو العضو المستهدف وتسبب تلفه وتليفه لتفضي في النهاية إلى توقف الكبد من أداء وظيفته، فالمسألة مرتبطة بالتركيز.
لا يمكن الحكم على خطورة أي منتج غذائي دون تحقيق أمرين أساسيين:
الأول: هو في أي حالة يكون هذا المنتج خطراً وساماً؟
الثاني: كم هي الكمية أو النسبة التي تسبب الخطورة من جراء تلوث المنتج الغذائي بالمركبات السمية؟
تطرقنا في مقالة سابقة نشرت عبر قناة «القطيف اليوم» بعنوان “المكسرات.. لذيذة.. ومفيدة.. ولكن إياكم والتجاوزات” أشرنا فيها إلى سلبيات التخزين والحفظ والتداول للأطعمة وتأثيرها الضار على صحة الإنسان، ويسعدني اليوم أن ألقي الضوء على هذه المساوئ من واقع الملاحظة والمعايشة، والتركيز على الناحية المخبرية والتي تعتبر مهمة للحصول على قاعدة بيانات موثوقة.
تفرز بعض الفطريات مركبات سمية تسبب للإنسان عن طريق تناوله بعض الأغذية، وللحيوانات عن طريق تناولها المواد العلفية، حالات مرضية تختلف حدتها باختلاف السم والعائل وتسمى هذه المركبات (Mycotoxins)، وتوجد أنواع كثيرة أهمها: الافلاتوكسين، الاوكراتوكسين، السترنين، السترجماتيستين، الباتشولين، الارجوتزم، اليوكيا.
تعتبر سموم الافلاتوكسينات التي توجد في الأطعمة من أهم التسممات الفطرية الشائعة الانتشار، وذلك بسبب كثرة حدوثها وخطورتها.
الافلاتوكسينات: مركبات عضوية سامة جداً تنتجها أعفان من نوعين من الفطريات من جنس الاسبرجيلس هما:
• Aspergillus flavius • Aspergillus parasiticus
والتي تنمو على المحاصيل الزراعية في الحقول أو أثناء التخزين في الأجواء الحارة الرطبة.
ويزداد عدد الإصابات في المناطق الاستوائية حيث تكون درجات الحرارة مثلى لنموها وتكاثرها.
وتسبب تركيزاتها العالية على الإنسان والحيوان مخاطر صحية يصعب علاجها.
ويوجد منها أربعة أنواع رئيسية هي افلاتوكسبن B1 وهو الأكثر انتشاراً ثم مجموعة الافلاتوكسيناتG2 ,G1 , B2 وهي الأقل انتشاراً، كما توجد مشتقات أخرى لهذه السموم مثل افلاتوكسين M1.
العوامل التي تؤثر على إنتاج الافلاتوكسين:
• الرطوبة: الرطوبة النسبية المثلى لإنتاج السم من قبل الفطريات هي 83 – 85%.
• درجة الحرارة: درجة الحرارة المثلى لإنتاج السم هي 30 °م والصغرى هي 12 – والعظمى 41° م.
• الوسط الغذائي: المواد الغذائية التي ينمو الفطر فيها وينتج السم، متعددة وهي منتجات الحبوب مثل الذرة الصفراء والبيضاء، والأرز، والقمح، وبذرة القطن، وبذور دوار الشمس، والبقوليات، والمكسرات، والبذور الزيتية ومنتجاتها كالفستق – والفول السوداني – وزبدة الفول السوداني – واللوز – والسمسم، واغذية الرضع، وأغذية الأطفال المصنعة من الحبوب، وأعلاف الدواجن، والأعلاف الحيوانية والتي تنتقل إلى الإنسان عن طريق منتجاتها كاللحوم والبيض والحليب.
تخضع الحبوب والمكسرات والحليب لفحص السموم الفطرية من نوع B1 , M1 , وقد أثبتت الفحوصات المخبرية خلو معظم العينات من تلك السموم أو بتركيزات أقل من المسموح بها، وحسب نتائج المسح الدوري التي أجرته الهيئة العامة للغذاء والدواء – إدارة الرصد وتقييم المخاطر، لرصد السموم الفطرية لعدد من الإرساليات التي شكلت القاعدة الأساسية للبيانات الموثوقة، وقد شملت الدراسة الفول السوداني، والمكسرات المشكلة، الواردة من الهند والصين لـ” 55″ إرسالية تقريباً، بدأت في منتصف 2019 م واستمر السحب لمدة 3 أشهر، وأظهرت نتائج المسح وجود إرساليتين تجاوزتا الحدود القصوى المسموح بها حسب المواصفة الخليجية رقم GSO 841/ 1997 “الحدود القصوى للسموم الفطرية المسموح بها في الأغذية والأعلاف – الافلاتوكسينات”، ويجب أخذ هذه النتائج في الاعتبار، في حالة التقيد بضوابط النقل والتداول والتخزين، لأن الفطريات قد تنشط وتفرز سمومها في الظروف الجوية الحارة والرطبة، وتسبب حالات تسمم شديدة الخطورة على الإنسان.
من الصعب التحكم بسلامة ومأمونية تلك الأصناف بعد تجاوزها الفحوصات المخبرية والسماح بدخولها البلد لأسباب عدة منها قلة وعي المستهلك وكذلك التجاوزات من قبل المستوردين في طريقة التخزين والنقل والتداول، وخصوصاً نحن نعيش في منطقة تتميز بالأجواء القاسية، حرارة مرتفعة ورطوبة سائدة، مع توفر العامل الذي ينمو فيه الفطر وهو الوسط الغذائي، والبيئة المناسبة لنمو الأعفان.
من هنا فإن الظواهر السلبية التي نمارسها في أسواقنا وبيوتنا شجعت الفطريات بفرز سمومها على أغذيتنا وسببت لنا الكثير من المشاكل الصحية منها الأمراض المستعصية التي ليس لها علاج، رغم المحاولات الجادة، فهذه النوعية من السموم إذا دخلت الجسم لا تخرج منه!
فهل من سبيل لعلاج من يصاب بها؟
لقد زادت حالات الإصابة بالسموم الفطرية بسبب عدم معرفتنا بدرجة خطورة تلك الملوثات، والوسط الغذائي التي تنمو عليه، والظروف الملائمة لنموها وتكاثرها، والأهم هو كيفية التعامل السليم للغذاء.
• تعتبر مرحلة التخزين من أهم المراحل التي يجب المحافظة فيها على المنتجات الغذائية من الإصابات الفطرية، ويجب أن يكون مكان التخزين منخفض الحرارة وجيد التهوية، ويستحسن أن تكون درجة الحرارة اللازمة للتخزين بين 5 – 10°م، والرطوبة الجوية بين 45 – 50%، وعندما يرتفع مستوى كل منهما عن ذلك داخل المخزن المغلق فإن ذلك يشجع نمو وتكاثر الفطريات وإفراز سمومها مما يؤدي إلى تلف وفساد الغذاء.
وتقدر الحدود القصوى لسموم الافلاتوكسينات المسموح بها في الأغذية والأعلاف بجزء في البليون (Ppb)، ويكفي أن يتعرض الشخص لكمية ضئيلة من السم قد لا تتعدى أجزاء في المليون (Ppm) كي تودي به وتسبب له الوفاة، وهذا ما يعرف بالتسمم الحاد Acute Toxicity، بينما الغالب الجرعات التي يتعرض لها الشخص تكون صغيرة جداً هي أجزاء في البليون (Ppb) لفترات متعددة على ممر الشهور والأعوام ليظهر بعد ذلك مخاطرها الصحية المحدقة.
فعند شراء الأغذية مثل الحبوب ووجبات الإفطار المصنوعة من الحبوب مثل “كورن فليكس” والمكسرات من الأسواق، يجب التأكد من فترة صلاحيتها، وأسلوب عرضها، ومدى التقيد بتعليمات الحفظ والتخزين، لكي نتجنب حدوث حالة تسمم غذائي لا قدر الله.
يبدأ دور المستهلك في حماية نفسه من التسممات الغذائية مع بداية التفكير في التسوق، حيث يفضل أن يسعى المستهلك إلى شراء المواد الغذائية من محلات ذات سمعة جيدة، تهتم بنظافة المحل ونظافة العاملين فيه، ومدى التزامهم بالسلوكيات الصحية، وتوفير التجهيزات الداخلية الجيدة التي تكفل حماية الغذاء من الملوثات الخارجية، وتخزين الأغذية الحساسة سريعة الفساد بصورة جيدة، وعليه “أي المستهلك” أن يلاحظ أن أجهزة التكييف والتبريد تعمل بشكل مناسب، لضمان سلامة الغذاء من تأثير سوء الحفظ والتخزين، وتجنب مسببات التسممات التي تنتجها الفطريات في الظروف الحارة والتخزين السيئ.
على الجهات التشريعية والرقابية المعنية أن تفرض رقابة صارمة على محلات بيع الأغذية والحلويات والمكسرات لكون معظم هذه المنتجات قد تباع بالكيلو، فلا يستطيع المستهلك الاطلاع على بياناتها الإيضاحية والتغذوية كفترة صلاحيتها، وظروف تخزينها، وهي أكثر ما يثير قلق المستهلك في سلامة الغذاء الذي يشتريه، فالأمر مرتبط بالرقابة الصحية، وإشراف صحة البيئة في الأمانة والبلديات، والدعوة إلى المزيد من الجهد لتحقيق ذلك الهدف، حتى لا يصبح الغذاء مستودعاً للتسمم!
منصور الصلبوخ – اختصاصي تغذية وملوثات