ربطتهما علاقةُ حُبّ من نوعٍ خاصٍ مختلف، فقد بدأت هذهِ العلاقة منذُ سنّ التاسعة، ذلك العمر الذي لا يُمكن للعواطفِ فيه أن تكون جادّة ومتزنة مطلقًا، بيْدَ أنَّ الأمورَ معهُ كانت متغيّرة، فالعاطفة لم تنطفئ ولم تتبدّل لغيرِها كما يحصُل غالبًا، بل زادتها الأيامُ اتقادًا ووهجًا وعمقًا، فأصبحت حبيبتهُ الخفيّة حبيبتهُ أمام الملأ، بعد أن سحرَتهُ ببساقتِها وقامتها الممشوقة المُعانِقة للسماء، وجذبتهُ جدائلُها التي لا تشبهُ ضفائر النساءِ حولها، وكان أكثر ما تيّمهُ بها ذلك السكون والهدوء الذي يفرقها عن باقي إناث الأرض.
وكان ارتباطهُ بها وثيقـًا، تشهدُ عليهِ 33 سنةً قضاها المزارع فاضل بن علي آل عمير، المنحدر من بلدة الوسادة بالقطيف، في علاقةِ حبّهِ “للنخلةِ” على وجه الخصوص، والأرض الخضراء والزراعة على وجه العموم، فدخلَ عالمَها الخاص مع عمّهِ عيسى آل عمير، بعد أن شجّعهُ والدهُ على الولوج في حياة المزارعين، فبقي فيها ولها عاشقًا حتى مع حصولهِ على الوظيفة الحكومية.
تهوى الماء
يذكرُ أبو عباس أنّ النخلة تهوى خدماتٍ خاصة من صاحبِها؛ لتحسين كمية ونوع إنتاجها، فهي تحتاجُ إلى تربةٍ صالحة تشتمل على المعادن الهامة لها، إضافةً إلى السماد، ومن المعروف أنّ النخلة شجرةٌ محبّة للماء، حتّى لو سُقِيت بصورةٍ يومية، فالماءُ الجاري عليها يكسبُها القوة، خاصةً إذا كانت النخلةُ ضاربةً في الأرض بجذورها الممتدة ومثمرةً، فإنها لا تتضرّر من السقي، كما أنّ هناك عملياتٌ أخرى تجميلية تتطلبّها النخلة تبدأ بالترويس، ثمّ التنبيت والتحدير والخراف وانتهاءً بالصرام.
كرٌّ ومنجل
ويسردُ “فاضل” لـ«القطيف اليوم» المهارات الخاصّة التي يتطلّبها التعامل مع النخيل فيقول: “قد تكون الأدوات التي يحتاجها المزارع للصعودِ على ظهر النخلة بسيطةً جدّا ولا تعدو كونها أداتين فقط هما: الكرّ والمنجل، فالمِنجَل فهو أداةٌ حادّةٌ للقطع يصنعُها الحدّاد الخاص بالزراعة، والكرّ هو عبارة عن حبلٍ متين يُصنع من ليفِ النخيلِ أشبه بالحِزام، ولهُ جزءٌ عريض ليّن يَسندُ به المزارع ظهرَه، وهاتان الأداتان يحتاجهما المزارع أثناء صعودهِ للنخلة، أمّا على الأرض فهو يحتاجُ للعمود والمحش والصخين لتجميع الفسيل”.
ويكملُ حديثهُ: “لكنّ ارتقاءَ النخلة والانحدارُ منها يتطلّبُ الكثير من المهارة، فهناكَ الكثير من المزارعين ممّن اعتادوا على ارتقاء النخلةِ عمرًا، لكنّهم حينما عادوا إليها بعد انقطاعٍ عنها استطاعوا الركوب وأعجزهم النزول منها”.
التجميل
ويصفُ علاقة النخلة بصاحبها بأنّها علاقة دلالٍ تُؤتي ثمارُها على ألذّ وأشهى أنواع الرطب التي يجنيهِ منها، فهي تحتاجُ للكثير من العمليات التجميلية والأساسية على مراحل منظّمة وأوقاتٍ خاصة يفصّلها في حديثهِ لـ«القطيف اليوم»: “تبدأُ العمليات الزراعية التي تتطلبّها النخلة بعملية الترويس، وهي عملية تقليم النخلة باستخدام المنجل؛ لإزالة السلاء الحادة من السعف، وتتمّ عملية الترويس في بداية الموسم وقبل إجراء عملية التلقيح، وتليها مرحلة التنبيت أو التلقيح ويُقصد بها نقل حبوب اللقاح “القُمح” من النبات أو الزهور المذكّرة التي تُوجد في الفحال إلى طلع النخلة أي الزهور المؤنثة التي توجد في النخلة”.
ويضيف: “هناك بعض أنواع النخيل لا تحتاج التلقيح البشري من المزارعين وتؤتي ثمارها طيبةً مثل البُكيرة والعوينة في وبعض الفسيلات التي تخرج من نفسها، ولكنّها مع التنبيت يزداد نتاجها، بيْدَ أنّ بعض أنواع النخيل لا بُدّ له من التلقيح مثل نخلة الخلاص، التي يصل عدد عذوقها من 25 إلى 28 عذقًا.
ويتابع: “ثم تجيءُ مرحلة التحدير وفيها نقوم بتدلية عذوق النخلة إلى الأسفل وتثبيتها جيدًا بربطها في السعف، وجعل الشماريخ في كتلة واحدة كلّها متدليّة بموازاة القمة، كذلك توزع العذوق على مسافات منتظمة مكوّنة ما يشبه الحلقة التي تُحيط بقمة النخلة، بحيث تصبح ثابتة لا تتحرك بسهولة مع الرياح، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة خَراف الرطب ولمّهُ فنجني الرطب الطازج بتسلّق النخلة وقطف الرطب، كما نقوم والمزارعون أخيرًا بعملية الصرام بقطع عذوق النخلة، واقتطاع الناضج فقط لحين انتهاء الثمر، ثم وضعهُ بالصناديق لبيعهِ بالأسواق”.
عليةٌ ممتازة
ويفرّقُ “آل عمير” بين تحديرٍ وتحديرٍ آخر، فكي تكون عملية التحدير جيّدة لابد أن تكون العذوق متدلية للأسفل بموازاة القمّة، فلو دُلِّيت العذوق بشكل خاطئ أو معوجٍّ في عملية التحدير فإنّهُ ينكسر، أو يصبحُ العذقُ أصفرًا يابسًا مثل الحشف، نتيجةً لعدم وصول الماء إليه.
موسمه
بدأَ فاضل تحدير النخيل في مزرعتهم بشهر الخير، كما فعلَ المزارعون أمثالهُ، فقد دخلَ موسم تحدير النخلة بعد أن عقدت الخلالة في العذق، وتلقّحت النخلة، وحسب قوله قد اختلف موسم التحدير كثيرًا عن السابق نتيجةً لتغيّر الطقس من عامٍ إلى عام، فقبلَ عشرين عامًا مضت لم يكُن رمضان يقبل على المؤمنين إلا وقد أتت النخلة بثمارها من الرطب.
قيظ
لا تتحدّرُ جميع أنواع النخيل من البداية، فالغُرة والبكيرات مثلاً تتحدّران بدخول الموسم، بينما بعض النخيل كالخلاص مثلاً لا يتحدّر من البداية، حتى يتوثّق ويثقل.
ويُشترط لعملية التحدير أن تكون الشمس قوية، فلو صادف موسمُ التحدير وقتَ البرد فإنّ على المزارع تحديرَها وقت الظهيرة قرب أذان الظهر حتى يلين العذق ولا يصبح قاسيًا.
1000 نوع
ويعدّد المزارع فاضل بكل فخر أنواع محاصيل النخيل في منطقة القطيف التي يزيدُ عددها على 1000 نوعٍ، في حين أنّنا لا نعلم سوى المشهور منها، ومن أنواعها المشهورة؛ الماجي، والخضري، والغرّة، والشيشي، وخصبة العصفور، والهلالي، والخنيزي الذي يعدّ أجود أنواعها، والخلاص الذي يمتاز بطعمهِ ورائحتهِ.
عُمرٌ وعُمر
أكسب العمرُ الطويل الذي قضاه المزارعون مع النخيل معرفةً وخبرةً لهم، فباتوا يستطيعون تحديد عُمر النخلة بصورة تقريبية، كما يَذكر “آل عمير”؛ عن طريق نصبة الكرّ لها، يقول:” كلما كبُرت النخلة عامًا أصبح مقاس كرّها أوسع، وتعيش النخلةُ لسن الخمسين والستين عامـًا، وتتجاوز ذلك أيضًا فهي من الأشجار المعمّرة والمثمرة كذلك، فمهما تقدّم بها العمر يبقى عطاؤها كما هو عندما كانت شابة”.
ويضيف: “تتعرض النخلة لأخطر الآفات التي تهلكها، وهي الدودة الحمراء التي تفرم النخلة فرمًا حتى يصبح لحاها كاللحم المفروم، وتُعرف إصابة النخلة بها بنزول مادة تكون أشبه بالعسل في لونها وكريهة الرائحة إلى جذع النخلة، كما تتواجد مادة أخرى مثل نشارة الخشب لها نفس الرائحة على الجذع، لكنّ وزارة الزراعة تُساهم بفعالية كبيرة في القضاء عليها بمجرد إبلاغ المزارع عنها”.
إصابات
ويروي “آل عمير” لـ«القطيف اليوم» قصة طريفة وموجعة بنفس الوقت حصلت لهُ في إحدى السنوات فيقول: “تسلّقتُ ذات مرة إحدى النخيل في مزرعتنا لأخذ خلية نحلٍ بها، لكنّها سقطت من يدي ووقعت في حظيرة الأبقار، فانتابني الخوف والهلع الشديد أن تذهب تلك الخلية سُدىً في أفواه الأبقار، فنزلتُ مسرعًا بشدة ودون انتباه لأنقذ تلك الخلية، فلم أجدني إلا وسقطتَ على الأرض من ارتفاع 4 أمتار، وتأذت يدي ورجلي من تلك السقطة، والحمد لله أنّها لم تنكسر”.
مزارعو القطيف
يستشهد “أبو عباس” بأشهر المزارعين بالقطيف الذين لا يزالون يمارسون ركوبَ النخلة رغم تقدّم العمر بهِم؛ السيد سعيد الفوار، ولكنّ ضرورة السن ومقتضاه كذلك تمنعهم من ارتقاء النخيل الكبيرة التي قد يصل طولها إلى عشرين مترًا، فالعلاقة مع النخلة ليست علاقة عابرة بل هي علاقة وطيدة مثلها مثل علاقات البشر ببعضهم، والمزارعون يتعاملون مع نخيلهم وكأنّهُ فنٌ من الفنون – على حدّ وصفه.
استبشروا بشوال
ينسبُ “فاضل” الواسع من رزقه بعد باب الله تعالى للنخلة المعطاءة، فهو لا يعملُ في مزرعتهِ فحسب، بل إنُه استطاع تكوين الكثير من العلاقات الطيبة مع الناس بعملهِ في تحدير نخيل منازلهم، ويبشّر محبي الرطب أنّ موعدهم مع غرامهم الخاص من الرطب في آخر شهر شوال وبدايات شهر ذي القعدة.