نعجب كثيراً من سلوكيات بعض البشر وكيفية تعاملهم مع بني جنسهم، ومن أي الزوايا هم ينظرون، وفي أي عالم هؤلاء يعيشون، وكيف هم يفهمون ويتوهمون.
والعجيب أنه كلما اقترب منهم المرء وعايشهم، كلما اتضح له جلياً ما تعودوا عليه، فهؤلاء دأبوا على تنظير الناس وانتقاد تصرفاتهم، والحال أن العلاقات البينية عادة تتعمق كلما انفتحت على بعضها وتجردت من التكلف والحذر والتعقيد، حتى تكون ذات معنى ومصداقية، وإلاَّ كيف تحظى بالإنسان الذي تطمئن إليه وتثق به وترتاح وتأنس بوجوده، والعكس صحيح بالمقابل.
ولكن مع هؤلاء مطلوب منك للأسف أن تعاملهم بمطلق القيم الإنسانية وتمام الأخلاق السامية إن كنت تملك وتستطيع، تتعامل وكأنك معصوم من الزلل ومجبولٌ على الصواب، حيث إنهم لا يراعون ظروفاً أو أحوالاً صعبة تمر على المرء، تجعله يصيب فيها مرة ويخطئ مرات، مثله مثل باقي أهل الأرض.
مع هؤلاء يلزمك الحذر والحرص ما استطعت، لأنهم يحسبون عليك عثراتك، ويراقبون سكناتك، وماذا تأكل وتشرب، وما الذي تلبس وتركب، وكيف تتكلم وتصمت، وتنام وتصحو.
أما هم فإنهم المنزهون من كل عيب والبعيدون عن كل نقيصة.
عليك الحذر من البعيد مرة ومن القريب ألف مرة، هذا القريب الذي لا تدري متى ولأي سبب سيتنمر عليك فجأة ودون مقدمات ويهاجمك ذات غفلة مبرراً ذلك بكيل من الزيف، أو ربما بردة فعل لا سبب لها سوى ما اختمر في مخيلته من مغالطات وإجحاف، كل ذلك لكونه يظن أنه على جادة الطريق وأنك وغيرك على حافة الانزلاق.
ولعل الظروف هي المحك الذي تثبت من خلاله صدق العلاقات وعمقها، أو تكتشف أنها مجرد علاقات زائفة تفتضح حقيقتها من أول اختبار.
العلاقات الإنسانية الحقيقية لا تبنى على الوهم والزيف والمصالح، فهي على اختلافها ضرورة حتمية تتغذى عليها الحياة فتورق جمالاً وبهاء، وتنضج بها الأعراف والمفاهيم، وتتأصل من خلالها القيم والأخلاق القويمة.
لا يكفي أن ترشدنا لها الدساتير بقدر ما يجب علينا تأصيلها في أنفسنا وقلوبنا وعقولنا، وإثباتها من خلال أفعالنا وأقوالنا، ولا يكفي أن نعتز ونفخر بأصولها وتأصلها فينا دون أن نثبتها، ونثق بأن الآخر أيضاً يمتلكها، فهي ليست حكراً علينا، وبالتالي وبالنتيجة تنبنى الثقة في مكوننا الإنساني، وتنصهر العلاقات البينية بيننا في مزيج التآلف والتحابب والثقة والأمان والسلام.
وإننا من خلال هذا الانصهار والتمازج والتسامح، والتعايش الأسري، نستطيع أن نعبر مختلف الأزمات، ونتخطى عديد المشاكل والصعوبات التي تمر عبر أفراد وأطراف المجتمع الواحد.
ونحن في ظل الأزمة التي نعيشها، لابد وأنها أفرزت بعض المشاكل والأزمات في بيئة أو بنية معينة سببها الحظر القسري الحالي، والتواجد المستمر في المكان الواحد ولفترة طويلة لم نعهدها، وولدت بطبيعتها ضيقاً في النفوس ولربما انعكست سلباً على الأشخاص المصاحبين بسببٍ خفي وهو أن العلاقة هشة بطبيعتها من الأصل، وتخفيها الانشغالات والالتزامات، وأظهرتها الأزمة على حقيقتها.
هذا من جانب، ومن جانب ربما هي أصلت بطريقة أو بأخرى بعض العلاقات وقوتها وحصنتها، وبخاصة العلاقات الزوجية والعائلية كمثال شاخص ومهم، فأطراف هذا الحالة ربما ولأول مرة تتاح فرصة المكوث الطويل مع بعضهم مما جعلهم يكتشفون إلفة وسعادة وجمالاً كانوا غافلين عنها جميعها.
هذا طبعاً خلاف بعض العلاقات الأخرى والتي نحن مقصرون فيها بسبب ظروف الحياة وضغوطها، وكل ذلك دليل على وجود الأسس المتينة التي قامت عليها هذه العلاقات، مما يجعلها تقف سداً منيعاً أمام مختلف العواصف والأزمات موقف الصمود والتكاتف.
لذا وكما قلنا إنه متى ما تجلى الإنسان بقيمه ومبادئه الإنسانية النقية المحضة، فإنه قادر بلا شك على مسايرة مختلف الظروف، وتوظيف هذه القيم والمبادئ الذاتية والمكتسبة في خلق أجواء إيجابية مختلفة، وبناء علاقات متينة مع الآخر أكثر مما هي عليه، لا تهزها العواصف العابرة ولا تؤثر فيها الأزمات الطارئة، وسرعان ما ينكشف جمالها بفضل التفاهم، والانقياد للفكرة الواعية والتصرف الحكيم والمشاركة الوجدانية مع الطرف الآخر.
يجب علينا نحن بني البشر أفراداً وجماعات ان نبني مجتمعاتنا على أسس متينة وقيم عالية راقية، وعلى المبادئ الإنسانية الحقة والتي نسجت بداية الخلقة وبنيت منذ الفطرة وتوفرت في الأعراف المتعاقبة والنواميس السماوية النازلة.
نحن نحتاج أيضاً أن نبني علاقاتنا على الثقة المتبادلة وأن نعترف أن لكل إنسان الحق بأن يعيش حياته وفق ما يريد ويرى، لا ما يريده ويراه غيره، بشرط اتباع الحق والاسترشاد بالفضائل والأخلاق والمبادئ والسلوك القويم، وأن نتعامل بسواسية ومساواة بعيداً عن ازدراء الآخر أو تسخيفه، فلا فرق بين مختلف البشر متى ما تمكن الإنسان فينا من تشكيل ذاته وبناء وجوده على أسس الإنسانية المحضة.