يا عينُ للناس أعينُ

في اللغة العربية السِرٌّ هو ما يخفيه المرءُ ولا يذيعه. سِرُّكَ أسِيرُكَ فإنْ نَطَقْتَ بِهِ كُنْتَ أسِيرَهُ، وجمعه أَسْرَار. فلكلّ امرئ في حياته بعض الأسرار التي لا يعرف الآخرونَ شيئاً عنها. لكن تعال معي نسأل: كيف نحن وأسرارنا الآن؟ هل أبقيناهَا خفيةً عن أعين الناس أم بطوع إرادتنا نبثها كلاما وصورا يستمتع بها كل الناس؟

الآن يعرف الآخرون ما نأكل وما ندخر في بيوتنا، لا يعلمونها من مصدر غيبي مثل معجزة السيد المسيح (ع)، بل يعرفونها من ساكن الدار الذي لم يعد يضع حدا فاصلا بين ما هو خاص وما هو عام. يكفيك يوماً واحدا لترى فيه ما يرويه الناس عن أنفسهم بالصوت والصورة من خطاياهم وتفاصيل حياتهم ومشاكلهم الشخصية دون حرج.

فإذا ما تلقف غريبٌ واحد تفاصيل حياتنا، صح فيها القول: كل سرٍّ جاوزَ الاثنين شاع. عجزت شفتانا ولم نستطع كتمان سرنا، فهل نغضب حين تعجز شفاه الناس عن كتمانه. بل على العكس، تصبح الأسرار فاكهة لذيذة يستطعمها كل من يتذوقها، ويطلب المزيد منها. أليس من الغريب أننا نصور كل شيء في حياتنا، ما نأكل وما نشرب وما نشتري، متى ننام ومتى نستيقظ ومتى نسافر؟ كل هذا وأكثر لا بأس به! ثم تفرغنا لتصوير أخطاء وعيوب ومشاكل من حولنا من الناس دون إذن ودون خشية من عاقبة ما يجر ما نصوره وننشره من ضررٍ بسمعة غيرنا!

انتقل الناس من كونهم في السابق حذرين على أسرارهم حتى من الأقربين، وكانت أمور حياتهم منتظمة، لا يعلم بها إلا من خلقهم. ثم كشفوا الغطاء لغيرهم، فاختلت حياتهم. بعد ذلك لم يصبحوا حذرين من كشف أسرار غيرهم، فاختل نظام الجيران والمجتمعات. والآن نحتاج باحثين يسألون عن كم أسرةٍ انقطعت عرى المحبة بين الأزواج فيها؟ وكم منا من يرغب في الحصول على ما عند غيره؟ وكم من الناس لن يغفر له المجتمع ما كُشف من سر؟

ألسنا في حاجة إلى إعادة النظر في كثيرٍ من سلوكياتنا؟ وفي التفكير في إطفاء زر التصوير والتسجيل عندما نرى خطايا غيرنا ونواقصَهم؟ ونتذكر نصيحة من قال:

إذا رُمتَ أنْ تَحيا سَليماً مِن الأذى
وَدينُكَ مَوفورٌ وعِرْضُكَ صَيِنُّ
لِسانُكَ لا تَذكُرْ بِهِ عَورَةَ امرئٍ
فَكُلُّكَ عَوراتٌ وللنّاسِ ألسُنُ
وعَيناكَ إنْ أبدَتْ إليكَ مَعايِباً
فَدَعها وَقُلْ يا عَينُ للنّاسِ أعيُـنُ
وعاشِرْ بِمَعروفٍ وسامِحْ مَن اعتَدى
ودَافع ولكن بالتي هِيَ أحسَنُ


error: المحتوي محمي