ربِّ السجنُ أحب إليّ

السجن مؤسسة إصلاحية وعلاجية وتأهيلية، وقد مرّ السجن بمراحل خلال حقب التاريخ فكان في فترة من الزمن عقوبة وانتقاماً وفي أخرى تطهيراً من الذنوب والخطايا. والهدف من ذلك الردع؛ لذا تجد تلك السجون عبارة عن قلاع أو حصون تحتوي على سراديب مظلمة، وفي بعض الأزمنة أصبح السجن بهيئة أعمال بدنية شاقة.

لكنّها في العصر الإسلامي الأول في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) كانت تطبق نظرية السجن الإصلاحي، ورائد تلك المدرسة حسب التتبع هو أمير المؤمنين عليه السلام، كون الإسلام منبع الحريات وصيانة الكرامة حتى للمجرم؛ مما حدى بالفقه الإسلامي أن يفرد بابا في الفقه بالسجن والسجين.

وقد ورد لفظ السجن والسجين في القرآن الكريم ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾، و﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ﴾.

ورغم أن هذا المفهوم في الإسلام كان موجوداً إلاّ أنه لم يكن هناك سجن يحبس فيه الناس، فكان السجن في باحة المسجد النبوي أو في بعض دهاليز البيوت؛ حيث كان تعزيراً وليس حداً أو عقوبة.

ولم يكن السجن إلا في عهد الخليفة عمر بن الخطاب عندما أشترى داراً من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم وجعلها حبساً وسجنا لتنفيذ العقوبات.

وحين تولى الإمام علي عليه السلام الخلافة اهتم اهتماماً كبيراً بالسجن والسجناء فبنى سجناً من قصب في الكوفة وأسماه “نافع” فنقبه اللصوص وهربوا منه، ثم بنى آخر وأسماه “مخيساً” ولكلا الاسمين معان كبيرة فالأول “نافع” والنفع ضد الضرر والثاني “مخيساً” ويعني التذليل والتليين والمرونة، ومع هذا كان الإمام يولي ويتابع طعام وشراب السجناء ويصرف لهم معونة شتوية وأخرى صيفية.

كما كان يسمح للسجين الخروج لأداء الجمعة والعيد مع الأمة، بل هناك الكثير من الخصائص التي كانت تمنح له.

وأياً كان السجنُ من حيث النوع فهو أمرٌ غير مقبول، ومرفوض لدى الإنسان؛ كونه يصبح محروماً من حريته وهو ضد إرادته.

ومع هذا كلّه نجد نبياً ينادي ويطلب ذلك في قوله ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ﴾ وذلك لظروف خاصة لينجو مما حاكته له زوجة العزيز وينجو بدينه الذي هو أعز ما يملكه الإنسان وليتأقلم مع الحالة الجديدة محولاً السجن من فشل إلى فرصة؛ كما يعبر بذلك علماء الإدارة الحديثة بأنه لا مفهوم لوجود مصطلح اسمه الفشل بل هو فرصة استغلها نبي الله يوسف عليه السلام ونشر من خلالها مبادئ السماء لمن يرافقونه في السجن.

وليس ذلك بدعاً فالإمام الكاظم عليه السلام وهو أعظم أهل زمانه طاعة وعبادة قابل ذلك السجن بقوله: “إنك تعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت فلك الحمد” مما حدى بالإمام الهمام أن استثمر السجن لتربية السجانين وأخرج الصالحين منهم إلا من ختم الله على قلبه.

فيا ترى هل يمكن أن نقارن بين السجن والحظر، البعض بدأ يتأفف من وضع الحظر سواء كان في بدايته على مستوى القطيف بأنه ضيق الدائرة وسبب الاختناق لدى مجموعة وحرم البعض من أداء عمله والبعض الذي اتخذ الخروج والتجوال عادة رغم أنها ليست من القضايا الأساسية الضرورية وإنما من باب تغيير الجو مع الأصدقاء والرفقاء.

ولو تأمل هؤلاء أن سويعات يقضيها السجين في التوقيف فضلاً عن الانفرادي وما له من آثار نفسية عليه وتبعات على أسرة السجين ومحبيه، وكم يتمنى أن يلتقي بمن يحب متى ما شاء وقد حالت الظروف بينهم، لعد ذلك درساً مهماً يجب أن نتعلم من خلاله تذاكر من هم في السفر أو السجن.

فإذا كان العقلاء يعتبرون أن السجن فرصة يستخرجون منها الفرص الكثيرة والمتنوعة وفي الحدود الضيقة والظروف الصعبة، سيصبح الحجر أكثر فاعلية؛ كون فرصة اللقاء داخل الأسرة متاحًا ومن جهة أخرى وقبلها لا بد أن ندرك أن الحظر له إيجابيات كثيرة منها على الأقل أنه حد من عدد المصابين والمخالطين واستطاع محاصرتهم وبالتالي اتضح أن العدد في تناقص تدريجي فكيف يا ترى لو لم يحصل الحظر لعل حصل ما لا يحمد عقباه.

وقد تناول الكثير من الكتاب فوائد للحظر وكيفية استغلاله واستثماره، وهنا سيتم التركيز على مفردة بناء الذات الإنسانية؛ فالمتأمل أن أغلب من وصلوا لدرجات القرب الإلهي كانت لديهم خلوات ومناجاة خاصة بالعبادة، ولعلها تنوعت فمن الأنبياء من بقي في الحوت وهو يونس عليه السلام لمدة طويلة ولم يخرجه منها إلا بذلك الذكر العظيم الذي نسب في تسميته إليه بالذكر اليونسي ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ وله ثماره العظيمة يمكن البحث عنها.

أما نبينا الكريم صلوات الله عليه وعلى آله فكانت له قبل بعثته المباركة مناجاته وخلواته في غار حراء مبتعداً عن قومه إلا الأوحدين كعلي عليه السلام الذي يقول كنت أسمع رنة الملك حين نزوله.

لذا وجب علينا أيها الأحبة أن نستثمر هذه الفرصة للحصول على مقام قريب من الله وهو غاية منى المشتاقين، كما عبر ذلك إمامنا الكاظم عليه السلام: “إني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك” والعبادة هنا مفهوم أوسع تحتاج إلى بحث ومقال مستقل.

ومن أراد الاستزادة والتعرف على النماذج من غير المعصومين فليراجع سيرة أهل السير والسلوك وما كتب عنهم كأمثال السيد علي القاضي أستاذ المراجع والفقهاء والعرفاء ومنها الاضطلاع على كتيب “أسوة العرفاء” الذي ترجمه صادق حسن زاده وهو متوفر بنسخة البي دي إف يمكن تحميله وقراءته.
والحمد لله رب العالمين..


error: المحتوي محمي