الجامِحة وعناقُ الرحمة

سبحان الله، تعقيمٌ رباني من السماء، مطرُ خير ورحمة نازل من الرحمن الرحيم بعباده.

أمطارٌ تبث السكينة والطمأنينة، مبشرة بالخيرات وأن لنا رباً قادراً على رفع البلاء وكشف الغمة كلمح البصر.

نحن أقوياء بصبرنا، موقنون {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}، آخذون بأسباب النجاة، فلنستثمر نعمة البقاء في منازلنا (في الوقت الذي يشتاق فيه غيرنا من “أبطال الصحة” إلى هذه النعمة)، ونعيش خلوة مع ذواتنا تكون هي المفصل للتغير الجذري؛ ونقطة تحول نحو حياة أفضل.

فكم مرة عزمنا على الانفراد والابتعاد عن كل شيء وفسخت عزائمنا؟

وكم مرّة حاولنا الفرار لنحظى بلحظة سكينة وهدوء وأفسدها الضجيج من حولنا!

وكم مرة وقفنا فيها للصلاة جماعة في المساجد وغيرها من المناسبات وقلوبنا مشحونة على بعضنا البعض {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}؟

وكم مرة رأينا كيف غدا المعروف منكراً والمنكر معروفاً، يحرق مجتمعنا كما تحرق النار الحطب؟ فكأننا شيطان أخرس!

وكم مرة خرقنا قانون الطبيعة ومنظومة الوجود؟! فرادى وجماعة، سراً وعلانية؟

وكم مرة قطعنا فيها رزقاً، ورحماً، وجاراً، ومجتمعاً، وأفسدنا فيها خيراً، وقطعنا فيها سبل المعروف؟!

شكوى الأرض
حتى ضجت الكرة الأرضية من ظلمنا لأنفسنا وبعضنا البعض، وظلم البشر لبني البشر.

فرفضتنا كل بقاع الأرض المقدسة!؟ وكأنما {طَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ}!

إلا رحمة الله مدت إلينا باعها لنرتمي “بهذه النفس الجامحة” بين أحضان رحمته {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّـهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} “الحديد: 16”.

فكم مرة وقفنا فيها وقفة شجاعة أمام مرآة الحقيقة لنبصر أنفسنا بصدق؟

وكم مرة قلبنا صفحات دستور الوجود “متأملين.. متفكرين.. متدبرين” باحثين عن واقعنا وحالنا بين دفتيه، قصصه، تاريخه، وقانونه؟

وكم مرة قست قلوبنا حتى غدت {كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}؟

وكم مرة هممنا بالهروب من الله إلى الله ولم نفعل؟!

وكم مرة جمحت هذه النفس التي بين جنبينا حتى طغت وتجبرت وعاثت في أرض الله فساداً؟!

قرعُ باب الرحمة
ها قد حانت الفرصة ونحن على أبواب شهر الرحمة والمغفرة نعيش هذا البلاء والامتحان العالمي الصعب، والذي هو حقيقة نعمة تخفي ألطافاً إلهية جمة قد نعجز عن إدراكها.

ومن أجمل ألطافها أننا تباعدنا اجتماعياً ولكننا اقتربنا بقلوبنا التي قست ففتت قسوتها الوباء؟ وبدد ظلمة أرواحنا نور البلاء؟!

لم نرَ منك يا ربي إلا جميلاً، فإن كان هذا يرضيك فخُذ حتى ترضى. وما أجمل أن نحصد ثمار هذا المنع ونتزود من البلاء بصقل أرواحنا وذواتنا ونعيش الألطاف الإلهية والحكمة التي هيأت لنا أسباب التغيير الجذري العالمي الشامل للإنسانية في عالم الوجود كله {حتى يغيروا ما بأنفسهم}.

هلم بنا نقرع باب الرحمة نتذوق حلاوة البلاء فللبلاء طعم ولذة، يكفينا أننا نغدو فيه أقرب من الذي هو أقرب إلينا من حبل الوريد.

هيا نتغير ليُغير الله كل شيء إلى الأفضل والأحسن.

هيا نعود لدستور قانون منظومة الوجود، ونحترم قانون الطبيعة والسماء.

هيا نتمسك بطوق نجاة من جاء به إلينا “ليتمم – فينا- مكارم الأخلاق”.

هيا نتصدى للبلاء ونعود، ونتوب، وننسلخ من حولنا وقوتنا إلى حوله وقوته، ونستعين بصبرنا وصلاتنا على بلائنا {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} “الأنفال: 9”.

ها نحن بتكافلنا وتكاتفنا الاجتماعي أصبحنا جسداً واحداً يلمع بريق إنسانيته كالذهب؛ ولم يبقَ سوى أن نغتسل ونتطهر بماء عين الحياة.

لقد طهر الله بقاع أرضه بهذا الوباء فأغلق كل بيوتات الشيطان، وكأن هناك حدثاً عالمياً قادم تهيأت له الأرض وتطهرت لاستقبال موعودها القادم! وها هو اليوم أيضاً يعقم ويطهر أرضه وكأنها رسالة إلهية أخرى جاءت تروينا بالسكينة والأمان، وتحمل الخير الكثير والبشرى {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} “الأنفال:11”.

أدب الضيف
أحبتي تعالوا نستقبل شهر الرحمن، وندخل في ضيافته في حالة استثنائية نورانية عالمية فريدة من نوعها متأدبين في أرضه ومملكته متزينين بلباس التقوى والورع عن محارمه وقضاء حوائج عباده.

فسبحان الذي لا يعتدي على أهل مملكته، سبحان الذي يمهلنا ويمهلنا ونحن نعصيه ونعصيه {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّـهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} “فاطر: 45”.

وأنك الحكم العدل،
الذي لا تجور،
وعدلك مهلكي،
ومن كل عدلك مهربي،
فسبحانك سبحانك سبحانك.


error: المحتوي محمي