كيف نروض مشاعرنا؟

كثيرة هي الأمور التي تشعبت من جراء الوباء الحاصل في أيامنا هذه، والذي لا أحب ذكر اسمه لأني أصبحت أتقيأ ذكره كل يوم أينما وليت نظري بالقراءة أو اصغيت بسمعي للسماع، وبالمناسبة أعتذر من المكرونة لأننا أصبحنا نسلب اسمها كثيرًا فقط لتكون الصورة البديلة والمخففة من اسم من أشغل الدنيا بذكره.

لن أتكلم عن أي شيء من الممنوعات التي حصلت من جراء الاحتراز منه لأنه ربما تحدث عنها الكثير، ولكن هناك أمر أثار تساؤل عاطفتي واستدعى قلمي للكتابة.

وهو كيف يروض البعض عاطفته في هذا الوضع؟

كيف كان البعض يقيمون فاتحة العزاء لأحبتهم بدون أن يسلم عليهم أحد أو يحتضن صدرهم المحروق بفقد عزيزهم إلى أن وصلنا إلى وضع لا أحد يجتمع لديهم؟

أجد من الصعوبة بمكان تقبّل الصورة، ولا أُخفي أنني وجدت الأمر محرجًا جدًا أن أذهب لأداء واجبي الاجتماعي لإحدى الصديقات بمجلس عزاء أحد أقاربها بهذا الظرف لأفضل عدم الذهاب، لأني شخص لا يستطيع الاكتفاء بالنظر لأنه لا يجد معنى المواساة فيه.

فقط أتخيل المنظر وكأن هناك من يبكي بالطريق بحرقة وأنا أبقى واقفة أنظر له وهناك حاجز يمنعني من الاقتراب منه، وأن أكون بموضع المتفرج الذي يسلم من بعيد وقد لا يُرى سلامه لأن الباكي مشغول ببكائه.

حفظ الله الجميع وأبعد عن كل غالٍ وحبيب الشر والأسوأ، ولكن ماذا إذا كان الفقيد أبًا أو أمًا أو ربما طفل وحيد للتو تفتحت زهور عمره أمام والديه، أو كان شابًا يستعد لزفافه القريب، أو عروسًا لم تجد فستان زفافها بعد فتحولت الأكفان لصورته بالقبر.

كيف سنتخيل بكاء الفاقدين القريبين لهم خاصة بأول الأيام وصدمة الفقد؟

أنا لا أستطيع وصف مقدار وجع الفقد لهذه الحالات ومن في مقامها، وأدرك أن الفقد لوحده موجع ولكنه عند بعض الحالات أوجع، خاصة لمن لا تكون لهم نسخة ثانية تشابههم في الدنيا، ولكن أدرك أن عناقًا واحدًا لقلب فاقدهم سينثر منه الدموع الغزيرة لتطفئ شيئًا من نار استعرت في الصدور المفتجعة لتجعلها ترتاح هنيئة ويصل الشخص المعانق لشيء من معنى المواساة.

حقيقة ما أثارني هو قراءة خبر لأحد المتوفين بهذه الأيام رحمهم الله وألهم ذويهم الصبر والسلوى، والذي كان تعظيم أجرهم يقتصر على الهاتف في ظل الظروف الحالية، والبعض يعلم الله كيف نصبوا عزاء أحبتهم دون أن يحظوا بسلام صديق أو عناق قريب، فكيف لمكالمة أن تقوم مقامهم .

هذا بالإضافة إلى من يتوفى بهذا الفيروس ويعفى المغسل من تغسيله حفاظًا على حياته، فلا أعلم هل سيكون البكاء لوفاة المتوفى من مرض ابتلى به العالم أم لكونه حُرم من التغسيل.

كلامي ليس اعتراضًا على الاحتراز من الفيروس وانتقاله ومنع التجمعات التي ربما يكون بينهم مسافر مصاب لم يفصح أو يفحص أو ربما كان مخالطًا لمصاب فيقوم بعدوى الكثير، حيث ما زلنا كل يوم نشهد الزيادة من أعداد المصابين منه، ولكن أقول هذه من المنح التي ترافق المحن.

فمنحة من يتوفى منه أن يأخذ فصلًا من فصول مأساة سيد الشهداء بعدم تغسيله احترازًا من العدوى منه، ومنحة من يفقد عزيزه أن يذّكره فقده بفقد زينب لأخيها دون إن يواسيها أحد.

ولو فتشنا بالتاريخ سنجد أن هناك حالات مشابهة قد تهوّن وطأة الوضع، فإذا كنا لا نستطيع تقبل التغير في العادات الاجتماعية والحسينية، فلنلقي نظرة على الوضع الذي كان في عهد إمامنا الحسن العسكري (ع) الذي وصل لدرجة إخراج توقيع له يقول فيه: “ألا لا يسلمن عليّ أحد ولا يشير إلي بيده ولا يومئ أحدكم فإنكم لا تأمنون على أنفسكم”، فما هو الأعظم من أن ترى إمامك بين عينك ولا تستطيع حتى الإيماء له بالسلام.

فهذه الفترة ستكون محطة تعليم ذاتية لكن عن قرب وليس كما يُعمل الآن بالدراسة عن بعد، لأن التعليم الذاتي هنا مختلف عن المتعارف، فلا نحتاج لمدرسين أو دكاترة يشرحون الدروس، فالمدرس والدكتور هو أنت.

نعم أنت، فأنت من تعلّم نفسك كيف تتكيف مع وضع جديد يعلمك على ترويض مشاعرك والتحكم فيها، والذي قد لا يعينك أحد على تجاوز فقدان السيطرة عليها وإدارتها، ولكن أنت بإمكانك ذلك لأنك ملكت ميزة الاختيار الذي اختارك الله فيها لتكون ضمن المبتلين بهذا البلاء فثق بمؤهلاتك لتجاوزه.

واقعًا بعض المواقف الصعبة هي التي تعيد برمجتنا لنرى إمكانيات ذواتنا ومؤهلاتها غير المكتشفة، والتي كانت متعلقة بالأشخاص الذين ينوبون عنها لتنسى همسة الأب الحنون:
أتحسب أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبرُ

فهناك جوانب إيجابية تشرق مع كل نائبة تحل بالفرد تتفوق على سلبياتها، أليس الله يقول في كتابه الكريم: {فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا}، فكان عسرًا واحدًا أمام يسرين، فلنبحث عن اليسرين اللذين منحنا الله إياهما في خضم المعركة القائمة ضد هذا الفيروس الذي ينوي الانتشار والناس تترقب فقط مدى انتشاره وإحصاء أعداد ضحاياه، تاركة البحث عن أثره الإيجابي والناجحين ممن أبرموا صفقات النجاح من ورائه، والذي لا أشك أنهم قاموا بإنجاز ما لم يقوموا بإنجازه بالشهور الماضية، وتحدوا أنفسهم بهذه الفترة.

لهذا نحن نحتاج لإعادة النظر في تهيئة الأمور من جديد لحين تعود المياه لمجاريها، لنستشعر الإنجاز، فلم تغلق لتعود كما سابق عهدها دون تجديد، ولا أقصد بالتجديد تغيير الأثاث أو الديكور، لكن نحتاج لتغيير بعض السلوكيات غير اللائقة بها، فلنفكر بتقويم المجالس والفواتح مثلاً لتكون تعني اسمها المفترض أن تكون مجالس مواساة، ويحضرني هنا مقطع توقفت عنده من رواية واقعية أقرأها حيث كان الكاتب يروي امتعاض بطلها الفاقد لأخيه حين يقول: المجالس الحسينية لا تكتمل فيها الساعة وقبل أن تجف دموعي، تتحول إلى ديوانية من الضحك والأحاديث الدنيوية التي لا تستهويني وتنفرني، أهيم على وجهي في الشوارع، تقودني سيارتي بلا وعي إلى المقبرة.

فكم نرى هذا المنظر المؤسف في مجالس العزاء بعد انتهاء القراءة، حيث يلتهي الجميع بالحديث وقد يضحك أمام أهل المصاب دون خجل وتقدير لمشاعرهم المتأثرة.

فإذا كنا نستعجل العودة للحياة الطبيعية دون إغلاق شيء، فلنستعجل في أمر تغييره للأفضل ونعِده أن نعود إليه بوجه آخر يُسعده لتكون هذه منحته التي ستغطي على محنته.

بالختام أقول كلمتي لكل من فقد عزيزًا بهذه الأيام بأن لنا في آل رسول الله أسوة وسلوة، فإن لم نجد من يواسي أحزاننا ويحتوي مصائبنا بهذا الظرف فأقله ليس هناك شامت يتشمت علينا، أو مُهين يتعرض لإهانتنا أو ضربنا، أو حتى يمنعنا البكاء إن أردنا البكاء والإفصاح عن تفجعنا، لنبقى في نعمة تستحق سجدة شكر كسجدة راهب آل محمد (ع) للواهب الديان لتستنزل زيادة لطفه على عباده وتُخرجهم من السجن إلى الفرج القريب.


error: المحتوي محمي