ورد عن الإمام الكاظم (ع) قوله لهشام بن الحكم: يا هشامُ لو كان في يدك جوزةٌ، وقال الناس: في يدكَ لؤلؤةٌ ما كان ينفعُك وأنت تعلم أنّها جوزةٌ؟
ولو كان في يدكَ لؤلؤةٌ، وقال الناسُ: إنّها جوزةٌ ما ضرَّكَ وأنتَ تعلمُ أنّها لؤلؤةٌ ؟ (بحار الأنوار ج ١ ص ١٣٦).
(المشهد الفكري المجتمعي)
نحتاج في حياتنا لمثل تلك الدرر الحكمية التي تمثل إنارات نهتدي بها في دروب الحياة، فيخطئ من يتوهم انتفاء الحاجة لمثل هذه القيم والتعاليم التي تزيح عنا ستار الجهل والغفلة، وتضع الإنسان الناضج على سكة العمل والبصيرة الواضحة في حياة عمادها العمارة والسعي المثابر، وهذه الرواية تمثل إحدى الأسس المتينة التي يقوم عليها بناء الشخصية الإيمانية الصلبة، تعاليم يتشربها الفكر الإنساني فيتغذى بها في مواجهة مصاعب الحياة ومواقفها الضاغطة من خلال هذه المنهجية المتزنة في المواجهة وتحمل المسؤولية.
ما هو تأثير آراء وتصورات الآخرين لمختلف القضايا التي تهمك على طريقة تفكيرك و تكوين قناعاتك؟
هناك قضية مهمة تتعلق بتكوين الرأي العام والتأثير على أفكار الناس والاتجاه لبلورة موقف موحد أو يحظى بالأغلبية من الأصوات المؤيدة أو المسقطة له، ولابد هنا من التمييز بين الاستفادة من العقول الناضجة والواعية وما تمتلكه من رؤى، وما بين سلب العقول اتزان الفكرة وزج العقول في بؤرة الانبهار والقبول بها والذي لا يقوم على أسس منطقية، وإنما ينطلق من فورة عاطفية وانسداد في أفق البحث والتمحيص وعجز عن استنطاق الأدلة.
التلاقح الفكري والاستفادة من وجهات نظر الغير وضم تجاربهم وخبراتهم لعقولنا، هي من أهم أسس تنمية المدركات العقلية وتحفيزها نحو البحث عن المجهول، وذلك للبقاء خلف إطار شفاف ورشيد ينظر للمفاهيم والتصورات والمواقف والأحداث بحنكة ورشد، والاستئناس والاستماع للآراء المختلفة ومناقشتها ونقدها يبلور رأيًا حصيفًا عند الإنسان الناجح، وهذا التأثر الحاصل بمواقف الآخرين ليس بالعلة التامة في تكوين قناعتك الفكرية، بل هو جزء مهم من المعطيات المتنوعة التي تبحث من خلالها عن رؤية واضحة لموضوع أو قضية معينة.
الصورة غير المقبولة واللامنسجمة مع البنية الفكرية المكرمة للإنسان هي كونه إمعة ومعطلا لمداركه الفكرية، واللجوء إلى الاتكاء التام على ما يتفوه به ويؤمن به على ما يتداوله الناس على الساحة المجتمعية، إذ حينها يكون مسلوبا لحرية الفكرة والكلمة بسبب ضعف فكري عنده، وهذا ما يولد ناحية ضعف ونقطة انكسار في شخصية الإنسان، إذ البعض يسلم عقله للساحة الإعلامية وما يطرح فيها، فتكون طريقة تفكيره من بنات الفكر المتداولة بلا تمحيص أو فرز وتمايز بين الغث والسمين منها، فليس كل ما يقال ويدون ويطرح يمتلك شهادة القانونية والتسليم بها، ولو نظرنا للمنهج القرآني لبناء العقل الإنساني لرأيناه يعلي قيمتنا، بحيث تكون كل فكرة – مهما كانت – عرضة للبحث والمناقشة، ولو وصل الأمر إلى أعلى هرمية المعتقدات الدينية كالتوحيد والاستدلال على وجود الصانع.
والتشبث بالطرح المتوافر أمام المرآة الإعلامية والمجتمعية لا يقتصر ضرر القبول به دون تمحيص على ضعف البنية الفكرية للإنسان، بل ويمتد ضرره على النواحي الأخرى كالنفسية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها، فالضعف الفكري يؤثر على نفسية الإنسان ويصيبه بالانزعاج والضجر من وجود رأي مخالف أو سطوع وجهة مخالفة لما يتبناه، فيعلوه حينئذ الاضطراب والقلق وهو يشاهد عجزه عن الدفاع عن فكرة لا يمت لها بصلة إلا لقياها في عقول من حوله، كما تنبت العداوات والكراهية وتجاوز القيم الأخلاقية بسبب النظر لمن يخالفه في الفكر، ويمتد الأمر اجتماعيا إلى تصنيف الناس إلى فريقين بناء على وجود المؤيد لفكرته من المعارض له.
وجهات النظر الأخرى تقابل بالاحترام والعرض المجهري الناقد؛ لبيان نقاط القوة والضعف فيها بعيدا عن الشخصنة، وتعرض بمهنية وطريقة فكرية متزنة تعتمد على بيان البراهين والاعتمادات المقبولة لها منطقيا، ولا ينبغي لنا الانزعاج يوما من نقد موجه لفكرة نؤمن بها أو مفردة تعليمية أو منهجية تربوية سائدة، فالعقل الواعي تفحص عنده الأفكار وتنضج وتينع ما تستحق البقاء والنمو والانتشار والمقبولية.