دخلت سيدة إلى مستشفى الولادة والأطفال بالدمام لتضع مولودها الذي بين أحشائها، وبعد أن وضعته بسلام جعلت تنظر إليه وتغذيه بحنان الأمومة، قبل أن تدخل عليها امرأة وتلح عليها تسليمها الرضيع للاستحمام، وبعد الإلحاح سلمته لها لكنها لم ترجعه، وغادرت المستشفى على عجل في مسرحية خطف درامية غاب عنها الضمير الإنساني، ولم يكشف عن فصولها إلا بعد عشرين عاماً!!
نحن لا نستطيع أن نقدر أو نتصور مدى الألم والحزن والعذاب للأم عندما يفارقها صغيرها ولا تعلم متى يعود لها وترضخ للظروف المفرقة بينهما، في تلك اللحظات تسكب العيون ودياناً من الدموع لا تتوقف وتظل في القلب لوعة الحزن والأسى، حيث تصبغ الأشياء جميعها باللون الرمادي الكاتم في وجهها، وتصبح الكرة الأرضية بيابسها ومياهها ضيقة كثقب الإبرة المعتم في عينها.
وعندما يغيب الطفل عن أمه يصبح العالم في داخلها فراغ كله حتى من الهواء الذي تتنفسه! في تلك اللحظات لا تملك الأم إلا خياراً واحداً فقط وهو تسليم الأمر لله تعالى، وفي تلك اللحظات لا تستطيع أن تعيش في هذه الدنيا لحظة واحدة أخرى دون صغيرها، وتتمنى الموت على فراقه إلى أن يعود الطفل إلى أحضان أمه التي حملته وهناً على وهن وهي تقاسي الآلام طيلة حملها.
فمنذ اختطاف الطفل “موسى الخنيزي” من أحضان أمه لم ترَ الأم للكون أي لون، ولا تسمع أصواتاً سوى نبضات قلبها المتسارعة التي تهمس باسم صغيرها في كل دقة، وتنام الأم وتستيقظ لتجد نفسها وحيدة دون أن تمِلّ في انتظاره، توقف دقات الساعة وترى صورته في كل ثانية تمر عليها وتدعو ربها في كل ليلة أن يجمعها به، وأن تصحو في يوم ما لتجد نفسها معه فهي مشتاقة إليه كما اشتاق يعقوب ليوسف (ع)، وكما تحلم أوراق الشجر بتساقط قطرات الندى في كل صباح، وكما تبحث النحلة عن الأزهار لكي تحصل على أعذب ما في رحيقها.
تمرّ الأيام وتمضي الليالي سنين وفي لحظة بعد عشرين عاماً من الفراق يجمعها القدر مع من كان صغيرها، وذلك بتوفيق من الله تعالى والجهود الأمنية في الدولة، في حينها تنسى الأم تلك الأوقات العصبية التي مرت عليها ولا تذكر شيئاً منها، وفي حينها الدنيا تصبح حلوة العيش ويجتمع الشوق والحنين فيرسمان أعذب صورة من صور الحب والحنان، ولا نملك سوى الصمت ونترك العيون بمفرداتها القليلة أن تحكي عن قصة الشوق والعذاب بأسلوب عجز اللسان أن ينطق به، عندها نقول ما أحلى اللقاء بعد الفراق وما أجمل الفرح بعد الحزن والشقاء.
عودة “موسى” إلى أحضان أمه هي بمثابة عودة الروح للجسد بعد انفصالها عنه طيلة عشرين عاماً، وهنا تبدأ ترانيم الحياة باللقاء وبالجاذبية الروحانية فيحلو كل مر وتلمع العيون ببريق الأمل والسعادة، ويأتي الربيع قبل الأوان وتذوب كل الآلام وتتلاشى الأحزان، وتتلون الأشياء بألوان الزهور وتتعطر برائحة السعادة التي هي أجمل وأزكى من أغلى أصناف العطور، ويشعر الإنسان بأنّ له جناحين قويين يطير بهما ويعلو فوق السحاب، حيث لا عذاب ولا عتاب وما أحلى اللقاء بين الأحباء بعد الفراق والغياب.
فما أحلى تلك المشاعر التي قدمها أهالي القطيف عند اللقاء، وما أرق تلك الأحاسيس وما أصدق تلك القلوب وما أجمله من لقاء، لقاء نسيمه الشوق وعبيره الإخلاص الذي ينبع من بساتين الحب في ربيع العمر في أرض القلوب في لحظة اللقاء، وما أجمل العيون ونظراتها وما أجمل الأحاسيس وتصويراتها، لحظة الإبحار للقاء الحبيب في موانئ القطيف، فهي إبحار في فضاء الدفء والحنان في أجمل مراكبها، مراكب الدموع السعيدة، دموع الفرح وبسمة السعادة بعودة ابن القطيف إلى أرض القطيف.
ختاماً، إن فراق الأمومة صعب على الأم ووليدها، وحنين الفراق لا يعرف حلاوته إلا من ذاق مرارته، فما بالك بحنين أم ذاقت المرارات طيلة عشرين عاماً؟ فما أعظم صبرك يا أم موسى وما أقسى قلبك أيتها الخاطفة كنتِ تسرحين وتمرحين وأمهات يتعذبن لفراق أطفالهن سنين!! فما أقساه من قلب ذلك الذي تحملينه من دون ضمير.