من أجملِ مشاهدِ الصباح وما بعد الظهيرة منظر سائقِ حافلة الطلاب يتنقل بين الأحياءِ وفي الأزقة ينادي على الطلاب والطالبات يَستحثهم الحركةَ من أجلِ أن يصلوا مدارسهم دون تأخير. لكن مع كامل الأسى قائد الحافلة قارئٌ نهمٌ لا يكاد يرفع عينيه عن الهاتفِ خوفاً من أن يفوته المهم من توافهِ رسائلِ المساءِ والصباح!
لابد أن يكونَ في الصباحِ كل من في الحافلةِ من الصغار ينعمونَ بقسطٍ من النوم إكمالاً لما خسروهُ في الليلِ غير واعين للخطرِ من حولهم. بينما قائد المركبة يكمل قسطَ القراءة ولا يهمه حجم وسعر البضاعة التي يحملها. وفي الظهيرة يرتمي الصغارُ فوق مقاعد الحافلة بعد خليطٍ من بهجةِ وتعبِ يومٍ دراسي وقائد الحافلة يكمل في الطريق ما فاته من قراءة. ولكي لا نظلم هذا الشاب كلنا يقرأ في الطريقِ مع تفاوتِ مسؤولية وثمن ما نحمل من بضاعةٍ أغلاها نحن الذين نقرأ.
لو أدركَ هذا الشاب من ينتظر الصغار الذين ينقلهم إلى بيوتهم على وجلٍ وخوفٍ لما نظر إلى سوى الطريق ولما اهتم بشيءٍ أكثرَ من البضاعة التي ينقلها. إدراكاً أن معظم ما يقرأه أغلبُ الشباب العربي اليوم لا يعدو كونه ترهاتٍ وتسلياتٍ لا تساوي خدشاً في جسد. لزاماً أن يدرك من يحمل معه صغيراً أنه يحمل معه قلبَ أمٍّ وعقلَ أب، فكيف بمن يحمل العديد من الصغار؟.
أنا أخاطبك أيها الأب وأيتها الأم بصوتٍ عالٍ: لا تحرموا هذا الشاب من فرصةِ عملٍ قد يكون يهواها. لكن احرموه وامنعوه من القراءة عندما يكون طفلكم راكباً معه، إذ لا تحتاج الحوادث المميتة أكثرَ من ثوانٍ معدودات. رحلة الحافلة المدرسية من أمتعِ الرحلات التي كان آخر عهدي بها صيف عام ١٩٧٩م. مازلت أتذكر لونَ الحافلة وقائدها وأغلب من كان معي في تلك الرحلة من جزيرة تاروت نحو القطيف صباحاً وبعد الظهر.
تلك أيامٌ خلت كنا نقرأ من الكتاب ولم نقرأ أبداً كثيراً من الترهاتِ والتسليات السمجة التي لا تسمن ولا تغني من جوعٍ أثناء الطريق. كنا نمزح ونَتشاقى مطمئنينَ أن قائدَ الحافلة لا ينقل بصره عن الطريق. وأسوأ ما في الرحلة كان حرارة الطريق وعطلُ الحافلةِ المتكرر وخشونة مقاعدها!