ورد عن أمير المؤمنين (ع): “إن التفكر يدعو إلى البر والعمل به” (الكافي ج ٢ ص ٥٥).
بنظرة سريعة خاطفة وانعكاس لصورة البستان بما يحتضنه من أشجار وورود يبان لنا ذاك الجمال الظاهري والحسن الذي تتحلى به، فهل يمكن لنا إدراك ما تحمله الصور الأخرى من جمال معنوي؟
أمير المؤمنين (ع) يشير إلى حقيقة إدراك جمال الأمور غير الحسية، ويضرب مثلًا بمفهوم البر وهو الإحسان والإتقان بمختلف جوانب حياة الإنسان، فيما يتصل بالعلاقة مع المولى الجليل فتشتاق نفسه لعبادة خالصة تتضمن الورع والخشية منه تعالى، كما تنفتح أحاسيسه الوجدانية على جمال التعامل الحسن مع الآخرين بعيدًا عن التوترات، ويدرك معنى وبهاء المثابرة والقوة في مواجهة الصعاب في ميادين الحياة.
أول ما يخاطب به الإنسان هو المحرك الأساسي والمؤثر في حياته ألا وهو عقله، إذ به يسمو المرء حينما يمتلك دائرة فكرية تبحث عن الحقائق والطرق المحققة لسعادته، وبه يتسافل ويحط من كرامته حينما يعلوه صدأ الجهل والغفلة وعمى الحياة المادية، فبه يعيد المرء حساباته ويتعرف على مواطن الزلل والتقصير، ومن ثم تتحرك إرادته نحو التغيير الإيجابي والعمل على تحسين ظروف العمل الصالح والمثابر ببذل طاقته والاستفادة القصوى من وقته.
ومن أهم موارد التأمل والتفكير الواعي هو النظرة الوظيفية لوجود الإنسان في هذه الدنيا، من جهة المناسب لكرامته فينطلق في فضاء العمل المثابر دون تلكؤ أو تكاسل، ومن جهة أخرى – وهي الأهم – النظر إلى ما يرفع ميزان عمله في يوم القيامة، فهذه الحياة مضمار وميدان التحدي وعليه أن يغتنم أوقاته لتحويلها إلى منجزات، والطريق نحو تحقيق الوجود الكمالي له ليس بالسهل بل تكتنفه وتحف به الصعوبات والعراقيل، فهناك عدو لدود يتربص بالإنسان الدوائر ولا يكل ولا يمل من إعداد خفر المكر ليسقط فيها، إنه الشيطان الرجيم الذي يعمل ليل نهار ليتجه الإنسان نحو تحكيم شهواته والانشغال بالماديات حتى يصطبغ بها فكره وسلوكه، ولا ينبغي أن ننسى أن أهم ما يزعج إبليس هو الجانب العبادي للناس، فيحاول أن يصرف همة المرء عن الاهتمام بعباداته وإنجازها وفق شرائطها الخاصة بها، ولا يكل هذا العدو المبين إن رأى العبد متمسكًا بعباداته فيعمل جاهدًا على إفراغها من محتواها ومضامينها العالية، فالغاية من العبادات تحقيق ملكة التقوى التي تصرف المرء عن الخطايا.
ومن تلك الموارد التي يبان فيها أهمية التفكير الواعي الخالص من شائبة تسلل الشيطان وتحريك وساوسه، هي النظر إلى مسألة العطاء بجميع أشكاله المادية والمعنوية والتي تنطوي وتسفر عن نفس تستشعر حاجات من حولها وتعمل على بلسمة آلام الغير، ونحن اليوم بأمس الحاجة إلى مثل هذا الاعتبار و النظر الواعي، في وقت طغت فيه الروح المادية وتحكمت في مفاصل حياة الناس وعلاقاتهم، فلا يحتاج المرء الباحث إلى كثير من الوقت ليكتشف طغيان روح الأنانية وتبلد الأحاسيس الوجدانية تجاه مشاعر وحاجات الآخرين، فمن مسارات الشيطان الإغوائية هي إشاعة روح المخاوف من المستقبل المجهول مما يدعو النفوس الضعيفة للبخل، وما نعنيه من البخل ليس الجانب المالي ومنع مواساة ومساندة المحتاجين والمعوزين فقط، بل هناك البخل المعنوي المتمثل بمنع سبيل الإحسان والبر في مجمل التعاملات والعلاقات، فلو تمعّن المرء فيما يحقق وجوده الكمالي في الدنيا ويرفع ميزان أعماله في الآخرة سيجده في طريق البر، فالبر مفهوم شامل لعباداتنا ويعني الإحسان لأنفسنا بشكر المعبود من جهة، وبإكرامها من السقوط في وحل الشهوات والأهواء التي يتسافل بها إلى البهيمية والخواء.
وهذا التفكير التأملي يدعو الإنسان ويتجه به نحو التمسك بمكارم الأخلاق والتحلي بالروح المعطاءة.