برفقة ابني محمد شددت الرحال ليلة البارحة للسلام وتقديم التهاني والتبريكات لعائلة الخنيزي بعودة ابنهم موسى لأحضان العائلة الكريمة، وبينما نحن نسير في الطريق وقبل الوصول تصورت أن المباركين من الحضور ربما لا يتعدون العشرات، وباستطاعتنا أن نؤدي السلام بحرارة اللقاء ثم الخروج بكل يسر وسهولة ظناً منا أنها الليلة الأخيرة وسيكون الازدحام أخف من الليالي السابقة.
وما إن وصلنا إلى محيط المكان عجزنا أن نتحصل على موقف لسيارتنا، فما كان منا إلا وضعها بعيداً والمشي على الأقدام بهرولة سريعة، إلى حسينية الإمام المهدي المنتظر حيث مكان الاستقبال، وما إن وصلنا إلا وأمامنا تدفق بشري ممتد إلى خارج البوابة الخارجية بقليل، اصطففنا مع المهنئين، وعند المدخل يقف المذيع الأنيق محمد الحمادي ينقل المشهد لقناة الإخبارية.
التحرك نحو الداخل بطيء، وصوت قارئ المولد يجلجل المكان، اقتربنا من البوابة الثانية بعد جهد جهيد، وصعدنا عتبة واحدة وتقدمنا خطوات نحو الداخل، هالنا منظر المجاميع في رحاب الحسينية الغاصة بالمهنئين، بعضهم اتخذ من الانتظار جلوساً والأغلب وقوفاً، سلسلة بشرية تتثنى وتتلوى التفافاً، عيون تصافح العيون، ونبض الحاضرين واحد، بطء الحراك وعدم إدراك الوقت بدده حوارنا مع شخص كان يقف خلفنا مباشرة، والصدفة وحدها عرفتنا على بعض، لأن ثمة أشخاصاً اخترقوا نظام الطابور، فبدأت التعليقات اللاإرادية تصدر منا، قائلين من باب الذوق احترام الأوادم ولكن الجو يدعونا للتسامح والابتسام وغض الطرف.
ونتيجة لهذا الموقف بدأنا في حوار مطول ومتشعب عن الانساب والأقارب، وعن فرص العمل ووظائف الشباب، يقطع حديثنا الممتع، كثرة السلامات ممن يرمقنا بتحية من بين الزحام، وقبل الوصول بأمتار معدودات، قال لنا رفيق الطابور، حين أسلم على والد موسى سوف يكون الموقف مفاجئاً له حيث لم ألتقيه منذ 15 عاماً، كنا شركاء في الورشة ثم انفصلنا، لم نر بعض والسبب كثرة مشاغلنا وطبيعة متغيرات الحياة وابتعادنا في مساكن حديثة.
ضجيج كلام الحضور يختلط مع صوت المنشد، وحين اقتربنا للسلام على المستقبلين، أسأل هذا وذاك مم أعرفهم ماذا يقرب لك والد موسى، كل واحد يشرح لي النسب سريعاً، اقتربنا ومددنا يدنا لمصافحة الأب المستبشر بالفرح بوجهه المميز ذي اللحية التي تقترب من لون الحناء ووجهه المخضب بالمسرة والفرحة الكبرى، وألفينا الشاب موسى بهي الطلعة يفيض نوراً من دهشة الحضور وحبوراً من غمرة مشاعرهم التي تفيض نبلاً ووداً وعطفاً وحسناً.
لم نستطع تبادل القبلات معهما، بسبب وضع الطاولات الصغيرة منعاً للتقدم منهما، وذلك اختصاراً لوقت الحشود المتراصة والمتدافعة، فقط مصافحة الراح بالراح، نعم سمعت الترحيب الحار من لدن العريس موسى بابتسامة ملؤها التقدير، لكنه يتقدم مع أبيه لتقبيل المشايخ احتراماً وإجلالاً لقدرهم.
وبعد أن جاوزنا صدر المجلس بخطوات قليلة، أخذ عنواننا زميل صحبة الطابور، وعرفنا بنفسه، قال أنا أبو خالد، عبد العزيز شروفنا، وعرفته أيضاً بنفسي والتقطت بجوالي لقطات للذكرى والتي امتدت تصويراً في رحاب الحسينية. حين هممنا بالخروج وجدنا زحاماً أكثر فالمدخل واحد، رجعنا إلى وسط المجلس ثانية، التحرك بالكاد، هذا يوقفنا بتحية وآخر يرسم قبلات على الخدود، ومن بينهم أحد طلابي، قلت له يا أمجد العباس خذ المايك وجر الصوت بموال بحري وشنف أذان الحضور، قال لي حاضر يا أستاذ بس توسط لي، ناديت على الجميل الأخ محمد علي الخنيزي، الذي سجل لي كلمة عبر سناب شات سريعة تعبيراً عن مشاعري اتجاه هذا المشهد المدهش وهذا الفرح الجماعي الغامر والذي يفوق الوصف.
قلت له هذا البطل أمجد لديه مشاركة خفيفة سوف يعبر بها عن فرحته، وبالفعل صدح بصوته العذب أرجاء المكان، وجعل من بعض الحاضرين يصوبون جوالاتهم تصويراً نحوه، شنف أسماعنا بكلمات عن أهل البيت عليهم السلام، وأهدى المقطع الثاني خصيصاً للشاب موسى، رفع الصوت وجره عالياً بحنجرة النهام، أخذنا في لجة البحر إلى زمن أسلافنا البحارة القادمين لمعانقة أهاليهم، صورنا وكأننا أحد رجالاتهم مبحرين في مراكب الفرح والشوق نخوض غمار بحر كيتوس عائدين إلى ديار القطيف.
بعد أن غادرنا المكان نظرنا للساعة، واستعجبنا من طي الوقت، حيث مضى علينا داخل المكان الغاص بالأمواج البشرية قرابة ساعة ونصف، مرت مر السحاب ولم نستشعر بها، ما السبب يا ترى؟
أن تعيش الفرح في قلب الفرح، وتعانق الفرح وتذوب في عنفوان الفرح كأنك في حلقة تجلي مع الصوفيين الذائبين عشقاً في محبة الله، نسينا أنفسنا وذبنا عشقاً مع فرحة عائلة الخنيزي الممتزج بفرح كل الحاضرين، بوجوههم النضرة وقلوبهم الناضحة بالبهجة والمسرة، الجميع ذاب بنشوة الفرح، وسكرنا فرحاً في غمرة الفرح.
حين خرجنا من المكان، ظلت صور الوجوه ماثلة أمامنا، ولا سيما الأب وابنه موسى وأيضاً إخوانه وأقاربه وكل الحاضرين، تتراقص مع نبضات القلب طرباً ونشوة.
إيه أيتها القلوب الشغوفة بالتهنئات، إيه أيتها العيون المبصرة بالسلامات، طوبى لكم هذا الفرح الكبير وبارك الله في مسعاكم، وشكراً على مشاعركم الجياشة، تلك هي الكلمات المتبادلة بين كل القلوب الودودة المزدانة طيبة وألفة.
حينها قلت لولدي رأيت بأم عينك جمال المشهد، لم يكن موسى ابن عائلته فقط، وقال صدقت يا أبي بأنه ابن الجميع، رسم الفرحة على محيا الحاضرين صغاراً وكباراً ومن مختلف أبناء المحافظة، وبأن مجتمع القطيف بالفعل كأنهم عائلة واحدة.
عودة الابن موسى إلى حضن والداه لم تكن فرحة عائلة الخنيزي لوحدها إنما فرحة أمة، بل فرحة وطن بأكمله.
يا موسى كم كانت دعوات أمك التي لم ينقطع عنها الرجاء، ولم يخب ظنها بالله وإحساس قلبها كان طوال الوقت يناديك في العالم اللامرئي قائلة بأنك سوف تعود إليها يوماً، ها وقد عدت ورسمت لنا كرنفالاً من الفرح.
والحمد لله بأن الله أرجع الأمانة إلى أهلها، قري عيناً يا أم موسى.
يا عاشقين الفرح أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه أبداً، دعواتكم القلبية وأيديكم مرفوعة للسماء بأن الله يمن علينا بعودة خالي علي محمد هبوب، الذي ضاع منا قبل 55 عاماً، ضاع وهو في ريعان الشباب، كان ابن التاسعة عشر ربيعاً، ضاع في ليلة عرس، ولم نعثر له لحد الآن على أي أثر، ماتت جدتي بحسرتها ولا تزال والدتي وخالاتي وخالي حسين وكل أفراد العائلة تنتظر.
الله وحده يعلم عن مصيره، أهو حي يرزق أم غيبه الموت خلسة عنا! والدعوة ممتدة إلى ابن خال زوجتي الغائب منذ 25 عاماً، وهناك الغائبون منذ زمن عن أهاليهم، كم نتمنى عودتهم، يا رب يا رحمن يا رحيم بحق هذا اليوم الفضيل، يوم الجمعة المبارك، ارجعهم للقلوب الضامئة سالمين.
لم أكن أنوي أن أختم هذه المقالة السريعة بهذا الحزن الساكن في النفس، ولكن هي المشاعر لوحدها تدفقت من مواطن الفرح.
هنيئاً لنا جميعاً بعودة الابن موسى، وحفظه الله ورعاه، نعم إرادة المولى عز وجل هي من أرجعته إلى أهله سالماً، وتحية لكل الساعين خيراً، وسلام على كل الوجوه الضاحكة المستبشرة بلقاء موسى، الكل سادر في ليال عرسه يعيش أيام اعياد ولحظات مسرة، حقاً عودته كرنفال فرح.