الشيخ الحبارى.. النموذج والتجربة..  

روع مسامعنا خبر الرحيل المفجع والمفاجئ لسماحة الخطيب المربي الفاضل الشيخ عيسى الحبارى “رحمه الله”، الداعية الذي نَعتُّه المنابرُ الدينية والمواقعُ الخبرية ومنصاتُ التواصل الاجتماعي، في الفضاءين الواقعي والافتراضي، حيث كان يتحرك وينشط بأساليب غاية في الإبداع والبساطة.

لم يكن الفقيد السعيد “رحمه الله” نكرةً في يوم من الأيام حتى يُعرف، ولا مجهولاً ليُكتب عنه، ولا خاملاً لينوه به.

هو شعلة نشاط لا تنطفئ، وشلال عطاء لا يهدأ، ونمير عاطفة لا يجف، ونهر حب يتدفق، يروي بعذب حديثه الأرواح المتعطشة للكلمة الطيبة، فتلين بمواعظه الرقيقة القلوب الظامئة، وتنجذب إلى تراتيل عباراته الأسماع التائقة، وتخر الأذقان ساجدة في محاريب ذكره، خاشعة تتمايل كغصن داعبه نسيم عليل، وتنفتح كزهرةٍ لامستها قطرات ندى ذات صباح.

لا أتصور أن فئة من فئات المجتمع على اختلاف توجهاتها وتباين رؤيتها، وتنوع مشاربها وتعدد اتجاهاتها وألوانها، تجهل مقام الرجل وتنكر جهوده في الدعوة إلى الله والحث على الفضيلة والجذب إلى القيم العليا السامية.

مارس ذلك بنَفسٍ إنساني رصين، وروحٍ علمية أصيلة، وأسلوب خطابي رفيع يتسامى على التهريج، ويمقت المبالغة والتهويل، بعيد عن التكلف، خالٍ من التزمت، مجانب للمهادنة، حائد عن التملق ملتزمٍ بالمنهج القرآني القويم {ادع إلى سبيلِ ربك بالحكمةِ والموعظة الحسنة}، مسترشداً بهدي النبوة وسمتِّها الرصين: “إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم”.

ما أحوجنا نحن معاشر الدعاة إلى الله والمربين كل في حقله وميدانه، إلى التأسي بهذا الداعية النموذج الذي عاش بيننا ببساطة وواقعية وهدوء، أعطته كل هذا الحضور والوهج، وشرّعت لكلماته ومواعظه أبواب القلوب والعقول فأحبته وألفته وقبلته وتهافت الجميع على مقاطعه القصيرة تهافت الفراش على الضوء.

البعض يتصور أن النجاح لا بد أن يقترن بالإعجاز، فلا بد أن يمتلك الداعية معجزة تذعن لها النفوس، أو يُغرق في الحديث عن المعاجز ليجذب القلوب إليه، وينسى أن الأنبياء والأوصياء “عليهم السلام” لم يكن همهم صنع المعاجز وترويجها بين الناس وإجبارهم على الإيمان بما يدعونهم إليه، وإنما اعتمدوا منهج البساطة واللين وتوظيف لغة ومفردات تبشر ولا تنفر {ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك}.

قادتهم ثقتهم بأنفسهم وبمن حولهم إلى الانفتاح على الآخر المختلف، وبناء جسور التفاهم معهم {يمشون على الأرض هوناً}، مستعينين بحسن الظن مجانبين الشك والتفتيش في النوايا، سالكين منهج الحوار باستثارة الفطرة السليمة “يَسْتَأْدُوهُم مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بَالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ، وَيُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ”، مسترشدين بهدي السماء {إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر}.

ولا أراني محتاجاً إلى استدعاء المواقف وتكثير الشواهد لأدلل على نجاح التجربة الملهمة لفقيدنا وعمق محتواها وثرائها، لكننا بحاجة إلى استلهامها وقراءتها بوعي وإنصاف ومحاولة استدعائها وتطويرها لنبدأ من حيث انتهى.

ومع إيماننا بأن لكل فرد بصمة خاصة تميزه عن غيره، وأن الله قد وهب الفقيد كاريزما ومواهب انفرد بها، قد يكون بعضها متوفراً لدى آخرين، وغير متوفر للبعض الآخر، غير أن ذلك لا يستدعي تقمص الشخصية والأسلوب والأدوات بقدر ما نحتاج فهم ما يملك من مقومات وأدوات ومحاولة تطويعها وتطويرها للارتقاء بالخطاب الديني والممارسة الوعظية والخطابية بأساليب جاذبة ومحببة بعيدة عن الغلو والتطرف والترهيب.

نحن إذاً أمام نموذج إنساني محلي عاش بيننا بإمكانيات وأدوات متاحة، وأمام تجربة اجمع الكل على نجاحها بشكل تخطى كل الحواجز الجغرافية والأيديولوجية وسجل حضوراً وقبولًا راقياً ورائعاً بكل المقاييس، وستكون هذه التجربة حجة بالغة علينا تحول بيننا وبين التنصل عن مسؤولياتنا التبليغية والهروب والانكفاء عن العمل والدعوة والإصلاح بدعاوى فارغة وحجج غير نافعة {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}.


error: المحتوي محمي