لا أحد، نقول لا أحد يستطيع أن يتقمّص حال الأمّ فضلاً عن تخيله إلا أُمّ مثلها، فاقدة، بل مشتاقة لوصل جديد بوليدها الذي وُلد للتو أرهقها ألم الجسم والقلب في انتظار احتضانه بعد تقلبه في أحشائها تسعة أشهر. في انتظار الوليد الذي منحته احتضانة الولادة والرضعة الأولى، فتحسب الدقائق التي تفصلها عن رضعته الثانية بعد ساعة ونصف الساعة من تلك الأولى متأملة في تفاصيله، مُقلّبةً أعضاءه؛ قدميه وكفيه بين يديها الحانيتين، ونظرتها العطوف.
كيف وقد امتدت تلك الساعة والنصف الافتراضية فجأة وغدرًا إلى واحد وعشرين عامًا من الانتظار، صار بعدها ذلك الوليد رجلاً دون أن تراه أو يراها، دون أن تلمسه أو تكلمه أو تغذيه وتناغيه وترعاه.
فقدت ذلك كله فجأة، وما رعته طيلتها غير عين الإله، ودعائها الممتد في المدى، الأفق المفتوح عموديًا على السماء بعد أن ضاقت بها الآفاق بحثًا وأسئلة لا أجوبة عنها.
لم تيأس الأم الرؤوم؛ ظلت تناجي ربها، وتهمس في الأثير علّه يحمل صدى همسها إلى أُذنٍ كانت تصغي إليه وهو يتقلب في جوفها.
ظلّتْ مرابطةً على حلمها، أملها المولود، ثم المخطوف في ساعة فرح، موسى، ذلك الذي أوحي إليها (أنْ أرضعيه)، ثم خافت فألقته في يمّ المُقدّر خوفًا عليه، في انتظار الوعد (إِنَّا رادّوه إليكِ) بعد طول فراق.
بقيت تعانق حلمها طيلة العشرين عامًا، تشتري ثيابه، وتحسب حسابه في العدّ والحساب، من الطعام والشراب والكساء، يكبر بين حناياها وشوقها إليه، وكأنه قد وُلد ولادة مبتسرةً، ليعود إلى جوفها من جديد، ترعاه حتى العشرين، لا يبارحها ولا تبرحه، دون أن تدري مكانه أو ترى مقامه، دون وصل عدا نبض قلبها الذي يحدثها كل نبضة: ما زال هناك.
ثم يؤذن ويولد بعد ذلك ولادة أملها بعودته وولادته من جديد: ها قد وُلد موسى. هكذا صدحت الحكمة الإلهية في أذن القدر: الآن. حان اللقاء. ها قد وضعتِه من جديد. فاحتضنيه، وضميه إلى صدركِ أن: يا موسى. أنا أمكِ. أذّني أذان الأمل في اليمنى، وأقيمي في اليسرى إقامة الحلم.
في عودة موسى – في زمن عالقٍ في وحل المادة والأسباب – تلويحة نحو الغيب، نحو الحلم والأمل بالله، نحو التثبّت بما هو متعسّر ومأمول. لكلّ منا يوسفه وموساه، والحال هكذا، نكون كلنا آباء وأمهات موسى، تباعدنا عنها – الآمال – الخطى فتنفث في أعماقنا سموم اليأس والقنوط. فجاءت هذه النفحة السماوية يكتنفها اللطف الذي يُذِلّ الأسباب أنْ: كل أملٍ هو جدير بالحياة، كل حلم إذا ما بقينا على قيده مُحقّق!
قرّت عينكِ يا أم موسى، وقرّت عين صاحب كلّ أمل.