الانفجار العلمي ترافق مع الانفجار الفكري والفلسفي، فلم يكن هنالك انفصال بين الأمرين وأنتج إلى جانب العلوم المتطورة آنذاك كما طرحها بيكون وجاليلو ونيوتن نظريات في الفلسفة والمناهج النقدية كما هو لدى لوثر وكالفن وديكارت وقد بلغت أوجها مع نيتشه.
فنيتشه ليس فيلسوفاً فحسب وإنما قارئ مطلع على ثقافات عصره والعصور التي سبقته، وقد ضاق ذرعاً بالأخلاقية الكلاسيكية والتزامها مقولة الأفلاطونيين من أن السلوك المثالي هو الغاية من الأدب، ولا بد للخير من الانتصار على الشر، وينبغي تمجيد الإله القادر.
وقام بقلب المفاهيم المتداولة والمألوفة إلى عصره، المتمثلة بتركيزه على مركزية الإله وجعله محور الإنتاج المعرفي والثقافي، والتي انتقلت أدبياً إلى المؤلف، حيث تبوأ المكانة العليا في الدرس النقدي والأدبي وأصبح هو الركيزة الأساس لما يمكن أن يطرح.
فالله هو الوحيد القادر على فهم الكتاب المقدس وشرحه، وينبغي العودة إليه والاستفادة من كلماته في شرح الغامض والمبهم، وكذلك أصبح الحال مع المؤلف الذي أصبح هو القادر على فهم كتاباته وشرحها وبيان المقصود منها، وهي النقطة الفاصلة التي جعلت نيتشه يقدم مقولته “موت الإله” أو قتله.
بقتل نيتشه للإله المسيحي تكون قد طويت مرحلة هامة من مراحل الحداثة، وكذلك طويت مرحلة مماثلة من النقد باعتبار الاتصال العميق بينهما، فتوجه التركيز على النصوص بدلاً عن الكاتب أو المؤلف، ولكن التأثر لم يصل إلى الأدب إلا متأخراً.
فالنزعة الرومانسية المتمثلة في تمجيد الفرد الكاتب استمرت وبدت كأنها انقطاع عن الحداثة، بينما في الحقيقة هي امتداد لها ونزعة متأصلة بداخلها، ولم يستطع الأدب الخروج منها إلا بعد حوالي قرن من الزمان مع قدوم التفكيكية وانتهاء هيمنة المؤلف وإحلال النص محله، أما كيف حدث ذلك؟
لمقولة نيتشه بموت الإله استتباعات جاءت لدى كتاب آخرين لهم ثقلهم الفلسفي والأكاديمي، حيث ساروا خلفه مؤمنين بالمقولة وداعين إلى إحلال الإنسان الأعلى (السوبر مان) محل الإله في نزعة رومانسية الطابع تماماً، وعلى رأس هؤلاء برز مارتن هايدجر.
ساند هايدجر النازية ومدح هتلر ونزعته إلى مركزية الأمة الألمانية والعرق الآري واعتبار ذلك نتيجة طبيعية من نتائج الفكر والنهضة والأوربية ومرحلة متقدمة من مراحل الحداثة التي ليست إلا نقداً للدين المسيحي ومُثله وطرائقه وما ينتج عنه.
تفاجأ العالم بالحرب العالمية الثانية التي جاءت بناءً على تمجيد الفرد حسب النزعة الرومانسية والاقتراب من تأليهه ليكون على الأرض بما يوازي الإله في السماء، أما نتائج الحرب فمعروفة، حيث أنتجت القتل والدمار في أنحاء العالم وراح ضحيتها قرابة سبعين مليون إنسان.
هذه الصدمة أعادت تشكيل الوعي الثقافي الغربي وجعلته ينظر إلى عيوب النظرة الرومانسية الممجدة للفرد، فاتجهت الآداب للعناية بالإنسان من حيث هو واقع ضمن عالمه فغدا التركيز على الواقع عوضاً عن التركيز على الفرد، وهنا انتهت المرحلة الحداثية بإنتاج مقولة “موت المؤلف” لرولان بارت.
موت المؤلف في حقيقتها ليست إلا مقولة نيتشه المتمثلة بموت الإله، وإذا كانت مقولة نيتشه وضعت حداً للحداثة ونقد الدين المسيحي بإلغاء الإله وإبعاده عن الحياة الإنسانية، فإن مقولة بارت وضعت حداً للمؤلف وهيمنته على نصوصه.
وهنا بدأت مرحلة ما بعد الحداثة، حيث يقصد بها نقد الأفكار والأوضاع التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية وما جرى فيها وعبرها من ويلات تسببت بدمار وخراب للنفس البشرية وللعالم، وتبعها مصطلح نقد النقد الذي تم توجيه سهامه إلى النزعة التشاؤمية والميل للانغلاق الرومانسي.
فبدأت حينذاك نظريات القراءة والتلقي وتعدد التأويل بالظهور واتخذت أشكالاً عدة منها ما تعلق بالأدب ومنها ما تعلق بالفنون الجميلة، ولكن أهمها ما تعلق بالثقافة ككل، حيث هي المقصودة بالتغيير والنقد، فظهرت كتابات تتحدث عن الموضة والنقود كآليات ثقافية مسيطرة.
هنا نكون قد وضعنا اليد على نقد النقد ومفهومه، وكذلك على الحداثة ونقد الحداثة أو ما يعرف بما بعد الحداثة ضمن سياقاتها التطورية البالغة التعقيد والتشابك بين الفكري والثقافي، وبالطبع نحن كعرب أخذنا باستيراد المصطلحات واستخداماتها مع تجاهل الأصل الذي نشأت عبره.
يمكن تلخيص الفارق بين النقد ونقد النقد بأن النقد موجه للنصوص القديمة وفق الأساليب البلاغية، بينما نقد النقد موجه للنصوص بحسب المناهج الجديدة المتمثلة بنظريات القراءة والتلقي.
أما على مستوى الحداثة وما بعد الحداثة، فموت الإله حد فاصل بين مرحلتين هما تمجيد القيم الأخلاقية واعتبار المؤلف مركز العملية النقدية وبين انفتاح التأويل وتعدده في مناهج ما بعد الحداثة حيث انتقال المركزية للقارئ.
هنا أضع بعض الفروقات التي تبين بوضوح اشتغال النقد واشتغال نقد النقد:
1/ النقد توجه ناحية النصوص الأدبية بالدراسة والتحليل وفق المستويات البلاغية مع مراعاة المثالية الأخلاقية وتغليب قيم الخير، والإعلاء من شأن المؤلف.
2/ ترافق ذلك مع دراسة النصوص والانكباب على التراثي منها، وهو ما أوصل إلى مرحلة المعارضات الشعرية كما عند البارودي.
3/ التأثير الكبير للحداثة أصاب الأدب، فجعل التوجه ناحية المشاعر والتعبير عنها، وبهذا تمركز النقد حول الذات، وهو ما يعد قمة الأدب الرومانسي.
4/ بعد الحرب العالمية الثانية وفي نهاية الستينات برزت مقولة “موت المؤلف” التي جعلت المسار يتجه ناحية القارئ، وهنا انفتح الباب أمام مناهج القراءة ونظريات التلقي كما لدى: جنيت – ياوس – آيزر – إيكو… مع التركيز على السرديات أكثر من الشعر.
5/ بسبب الفوضى في التأويل التي تصاحب القراءات، برزت الحاجة إلى ضبطها وإعادتها إلى تأويل صحيح أو مبني على أسس، وهنا ظهرت مناهج الحجاج وإقناع القارئ.
6/ إذا كان النقد يتوجه أساساً إلى الأعمال الإبداعية، فإن نقد النقد يأتي لتلافي النواقص في القراءات النقدية أو في المناهج السابقة وتطويرها بما يتناسب مع المرحلة الحالية والمستقبلية.
بالطبع لهذه المناهج تأثيرات مباشرة على الحياة الثقافية، منها الانفتاح عبر شبكات التواصل، ومنها مصطلح الفوضى الذي استخدمته كوندليزا رايس – وزيرة الخارجية الأمريكية أثناء رئاسة أوباما – بوصفها للحرب في الشرق الأوسط بالفوضى الخلاقة، والمقصود بها إعادة ضبط عقال الحداثة وتلافي عيوبها وخلق مركزية جديدة ليست الذات وليست الآخر، إنما مصطنعة وموجهة عبر الأنظمة.