يأطلَّ الربيعُ فعرفت النخلةُ أن عرسها اقترب. شجرة لم يكن مقدراً لزارعها في القرن العشرين وما قبله من السنين في بلدنا أن يعتمدَ عليها في العيش، فالأرض لم تعنه بالخصوبة والماء كاد أن ينضب والعناية بها لم تعد سهلة. غزو المدنية وتمدد أماكن السكن والانتقال من اقتصادٍ لآخر حكمَ على الفلاحين الذين كان منهم أبي بأن يموتوا. في مثل هذه الأيام من كل سنة كانوا يشدون عزمهم وهممهم في تنظيف وإنبات تلك الشجرة التي حكمت الاقتصادَ وطبيعةَ العيش مدى التاريخ في حلقةٍ أظن أنها اكتملت ولن تعود تلك الطريقة من الحياة والاقتصاد من جديد.
بقيت آثارُ النخلة في بيوتنا زمناً طويلاً، فمن منكم امتحى من ذاكرته منظر السفرة المعلقة فوق الجدار، أو السياج من جريد النخل؟ من منكم لم ينم على حُصُرها وعندما استيقظ كانت آثار ضمها إليه وتقبيله باديةً على خديهِ وجسده؟ من منكم لم يكنس بيديها؟ وكم منكم من سترته وأسرته في منزلٍ بعيداً عن أعين الناس؟ ومن منا لم يحمل على رأسه زنبيلًا؟ هي الشجرة التي تصحبنا في الحياة وبعد الممات! لابد أن كثيراً منكم مشى بين البساتين المتشاجرة قبل أربعينَ سنة مستظلاً بالنخيل وأشجار التين والسدر والبمبر وما توافر في البساتين من أشجار تأقلمت مع الأرض والماء والصيف الحار.
زرعتُ بعضاً من النخل البكر قبل أكثرَ من عامٍ وقد حملت الآن فلم أجد غير العامل الهندي يعتني بها وكأنني لست ابن الفلاح الذي مجلت يداه وثخن جلده في العناية والرعاية بها! الفلاح الذي حتى وإن لم تكن النخلة تحمل التمر كان يعرف صنفه وكم ستحمل ومتى تؤتي أُكُلها. فلاحٌ لم يملك نخلاً أو بستاناً عاش كل مدةٍ في بستان يدفع لمالكه ما قدره من التمرِ والفاكهة. مرأى نُخيلاتي اليوم يحثني على شكرِ الفلاح والنخلة التي كان تمرها مصدر غذاءٍ لكثيرٍ من صبيان وصبايا الجيل الماضي الذي اعتمدَ على النخلة والبحر في تأمين عيشه.
أصبحت النخلةُ غريبةً في مواطنها الأصلية، لكن لحسن حظها استوطنت بلداناً وأماكنَ جديدة، وكأنَّ في قدرها أن تشبه البشر في هجرتهم من الشرق القاسي إلى الغرب الودود وعاد أجود ثمرٍ لها يأتي من هناك! الآن لو كان عبد الرحمن الداخل حيَّا واشتكى فيضَ الحنين لأعادَ مناداته لها:
يا نخلُ أنتِ غريبةٌ مثلــي
في الغربِ نائية عن الأصلِ
فابكي وهل تبكي مكبَّسـةٌ
عجماءُ لم تُطبع على خَبْلِ
لـو أنـها تبكـــي إذاً لبكــتْ
ماءَ الفراتِ ومنبتَ النخـلِ