كنا نرى ونحن صغارًا كل شيء حولنا جميلًا وكبيرًا وواسعًا لأن الطفولة بحد ذاتها بريئة متشوقة للمعرفة ومتعطشة للجديد لتمتلئ أعينها بالأماكن والشخصيات التي تستحق الوقوف عليها والتي لها يد خيرة على مجتمعها.
بالقديح وفي أرجاء فريق “الشرقي” الذي يحده من الشمال حي أم الخنيزي إلى شمال غرب مسجد الشيخ إبراهيم ملاصقا لمقبرة صغيرة وإذا صح التعبير مدفن استخدم لدفن من مات في زمن الحصار وهذه الحادثة لها قصة لا داعي لسردها الآن، ولكن في الفترة الأخيرة أضيفت تلك المقبرة للمسجد المذكور، وشرقه ملعب “السوداني” سابقا كانت مزرعة عامرة بالنخل والأشجار المثمرة، وقد قطع نخلاتها وأشجارها وصارت ساحة كبيرة استخدمت للعب كرة القدم والآن مواقف سيارات، ومن جهة الغرب شارع يفصله عن فريق “الشرابية” وسمى بذلك لوقوع عين جوفية فيه تسمى بذاك الاسم، ومن جهة الجنوب مبنى البلدية الحالي.
كانت أمي حفظها الله تحملنا مشيًا ونحن أطفال مارة من بيت الوالد حفظه الله من فريق الغربي حي “السدرة” متخللة البيوتات والأزقة “الزرانيق” والمنازل الخشبية “الصنادق” وبيوت الصفيح، عندها كنت ألمح دكانًا في زاوية لا يتجاوز مساحته المترين في مترين يبيع مواد غذائية بسيطة وتشم منه رائحة دخان التبغ “التتن” لأن غالبية مرتاديه كبار السن الذين يدخنون النارجيلة.
هذا الدكان يعرف باسم “دكان حميدان” يستقبلك فيه رجل عليه طلائع الإيمان يجلس قرب المدخل تشاهد البضاعة والسلع التي ترجعك للماضي البعيد القريب “زمن الناس الطيبين” والذي يذهلك حقيقة أنه ليس مجرد مكان للبيع فقط بل مجلس يرتاده مختلف الشخصيات، تأخذ منه أخبار البلد جديدها وقديمها حيث يتناقلون الأخبار فيما بينهم.
صاحب الدكان الحاج علي بن محمد بن حسين أبو حميدان من مواليد القديح سنة 1324هـ، يعتبر من المعمرين – رحمه الله -، عاش وسط الطبيعة “المزارع والنخيل” في كنف والدين صالحين وتوفي والده وكان يبلغ من العمر خمس سنوات، ولم يزل في مرحلة اليتم منذ صغره يعمل بالزراعة حتى سن الثالثة عشرة تقريبًا، ومن ثم راح يعمل بالبحر صائدًا للسمك ثم تطور ليصبح غواصًا يسبر في أعماق البحر متخذًا تلك المهنة لقوت يومه، تزوج الحاجة فاطمة الخليفة – رحمها الله -، وأنجبت له ولدًا اسمه أحمد وبنتًا اسمها أسدية.
في سن الخامسة والعشرين أصيب بمرض مفاجئ لعله “الجدري” فقد على أثره بصره ولصعوبة الحياة ومتطلباتها المعيشية وإعالة ذويه عمل مداحًا لآل البيت (عليهم السلام) متنقلًا ببيوتات القطيف وما حولها، فمهنة المداح مهنة قديمة من الموروث الحسيني حيث كان المادح يجوب الطرقات ويزور المنازل ويقرأ نعيًا أو مدحًا في حب آل البيت (عليهم السلام)، وهذه المهنة انتهت ولا وجود للمادح حاليًا، نعم علّم نفسه تعليمًا ذاتيًا ذاهبًا للخطباء متزودًا ومتعلمًا منهم حتى حفظ بعض الأبيات الحسينية ومع هذه الصعوبات كان لا يترك الصلاة في المسجد وكان المؤذن في مسجد الشيخ إبراهيم فكان يفتح المسجد قبل الصلاة ويغلقه بعدها.
كان صاحب هيبة ووقار لا يمل جالسه محبوب من الجميع ذو نكته وفكاهة يفتح الدكان كل يوم من بعد صلاة الفجر إلى ما بعد صلاة المغرب، حيث يذهب بعد تناول وجبة العشاء للمجالس الحسينية، كما نقل لي حفيده “حسين” الذي لازمه بالسير فترة طويلة من حياته بأنه عندما كبر بالسن عجز عن المشي لمسافات طويلة فاقتصر بالحضور للمجالس الحسينية القريبة وحتى هرم سنه لم يترك تلك العادة، وإن طُلب منه أن يرتاح يقول كلمته المشهورة: يا ولدي مادام بي عرق ينبض فلن أترك مجالس الحسين (عليه السلام).
بجانب مهنة المادح عمل أيضا بمهنة صعبة على ذوي الإعاقات البصرية وهي مهنة الحلاقة “مزين، محسن” وبائع في دكان حوى الحلويات والسكاكر والمواد الغذائية وبعض الأواني المنزلية والمكانس والمراوح التي تصنع من خوص النخل وبعض الملابس الخفيفة، هكذا كان الآباء والأجداد يتعبون.
الآن تقف بذهني ملامحه وهو جالس فوق تلك الدكة يكسوه الحزن والبكاء والعويل هائم تخنقه العبرة مستمع للنعي الحسيني الآتي عبر الأثير فقد كان من البكائيين والمحافظين دائمًا لحضور المناسبات التي تقام فيها شعائر آل بيت النبوة (عليهم السلام) حتى أقعده المرض وصار طريح الفراش لمدة سنتين إلى أن رحل إلى جوار ربه في تاريخ 27 رمضان 1433 هجرية، فرحمه الله رحمة الأبرار وأسكنه الله فسيح جناته إنه سميع مجيب.. وبالمناسبة (لنا في المترجم نسب من قبل النساء كما أخبرني بذلك والدي حفظه الله).