اعتدتُ على تأبين من تربطني بهم علاقة صداقة ومعرفة، وفاء لحقهم، وتخليداً لذكراهم، وإشادة بمواقفهم، واستفادة من تجاربهم، متجاوزاً الذات فيما أكتب، لأكون واصفاً لحالة إنسانية، وموثقاً لمرحلة تاريخية أو مذكراً بخصال إيمانية تجلت في شخصية من أكتب عنه، ومحيياً لسنة حسنة كادت تندثر أو تنسى فيكون أجرها له ولمن يعمل بها إلى يوم القيامة.
أمام بعض الأشخاص الذين تربطني بهم علاقة وثيقة أتردد في الكتابة خوفاً من أن تجرفني عاطفتي فأغرق وسط أمواج الحزن وتيار الذكريات وأفقد السيطرة على زورقي وتضيع مني الجهات!
مع إيماني ويقيني الجازم أن معركتنا مع الموت لن تنتهي حتى آخر نفس منا، خصوصا مع تصاعد وتيرة الفقد في الآونة الأخيرة حتى بتنا لا نستفيق من مصيبة فقد إلا على وقع مصيبة أخرى!
وفي حالة تحدٍ وعناد وإصرار كبير رأيتني وأنا استجمع قواي، كاتماً حزني، محاولاً استرجاع بعض الذكريات علها تسعفني لأكتب شيئا مما يسنح به الخاطر، وأنا أودع أخاً وصديقاً وزميلاً ورفيقَ درب جمعتني وإياه ظروف العمل في المؤسسة العامة للخطوط الحديدية، كان الفارق بيننا عام واحد تقريباً عندما التحق هو بالخدمة في عام ١٤٠٥هـ، وتبعته أنا في العام الذي يليه..
الصديق الوفي السيد حسين بن السيد محمود الوزان لم يكن مجرد زميل وصديق، وإنما أخاً وخلاً مخلصًا، تقاسمنا معاً لحظات الفرح وحملنا هموم الوظيفة وتبادلنا الضحكات والأحزان، لم نكن في نفس الإدارة ولا المبنى عند بداية التعيين، غير أن تميزه في أداء عمله لفت الأنظار له، فنقل إلى إدارة شؤون الموظفين وهنا بدأت العلاقة تتوثق وتمتد.
الهدوء الذي يصبغ تصرفاته وتحركاته مع حياء يكسو نظراته وعمق في التفكير والتأمل ورغبة في التزود من المعرفة وقراءة ما بين السطور وعدم التسليم والإصغاء لكل ما يقال ويثار وسمات أخرى، كانت تجذبني إليه وتجعلني أثق به وأركن إلى استشارته والأخذ بقوله والإذعان لرأيه، حتى عندما نختلف في بعض القضايا الفنية المرتبطة بتفسير بعض نصوص نظام الخدمة المدنية في القضايا التي ترد إلينا أو المعاملات التي يتم تحويلها بحكم الاختصاص.
عوامل كثيرة ساهمت في صقل شخصيته وأهّلته لكسب ثقة الآخرين ومحبتهم، الأسرة الكريمة التي ينتمي إليها، والأجواء المحافظة التي كان يعيش ضمنها.
ثمة عامل آخر كان له تأثيره الكبير فيما يتمتع به من وهج روحي وسمات أخلاقية وخصال إنسانية عالية هو ملازمته الطويلة وخدمته لسماحة العلامة الحجة الشيخ محمد تقي المعتوق – طاب ثراه.
لازم الشيخ المعتوق وتشرف بخدمته فترة طويلة، مجالسةً في بيته منذ أن كان في الدخل المحدود إلى أن انتقل إلى منزله الحالي بحي التركية، ومرافقةً له في تنقلاته وزياراته للعلماء والأعيان ومجالس الذكر والمناسبات الاجتماعية المختلفة.
كان مقرباً من الشيخ وثقته في بعض الأمور ذات الطابع الإنساني والشخصي المرتبطة بقضاء حوائج الناس مع ما تتطلب من كتمان وسرية، فضلاً عن أنس الشيخ به وارتياحه له وكانت فراسته فيه صادقة وواقعية “فالمؤمن ينظر بعين الله”!
بأدله الشيخ حباً بحب وتكريماً بتكريم، فأحبه حبين، حباً له لما يتمتع به من صدق وإخلاص، وحباً لانتمائه للذرية الطاهرة من آل رسول الله (عليهم السلام)، فبقدر احترامه للشيخ، كان الأخير يجله ويحترمه ويوقره مع ما بينهما من تفاوت في العمر والمقام العلمي والموقع الاجتماعي.
لقد كان لعلاقته الطويلة والعميقة بالشيخ المعتوق – رحمه الله – تأثيراتها الإيجابية التي تجلت في عدة أبعاد أهمها:
* الجانب العبادي بكل أشكاله، فكان لافتاً اهتمامه بالصلاة ومحافظته عليها والخشوع والتأني في أدائها حتى إن بعض الزملاء كان يمازحه أحياناً بقوله: “حشا.. ولا صلاة مرجع!” فيرد عليه: هذا اللي تعلمناه من الشيخ!
* الجانب الإيماني والولائي المتمثل بارتباطه الوثيق بربه ونبيه وأهل بيته (عليهم السلام) التزاماً وذكراً وتردداً في مواطن العبادة حجاً وعمرة وزيارة، يسعى إليها بلهفة محب وحنين عاشق.
* بره بوالديه وخصوصا والده الكريم الذي تعرض لمرض أقعده فكان يلازمه ويقوم بكل شؤونه، وحتى عندما تضطره ظروف العمل للتأخر والسفر لا ينسى أن يتصل بزوجته للاطمئنان على قيامها بواجباته.
* صلته لأرحامه واهتمامه بقضاء حوائج الناس وعدم تبرمه، وكثيرا ما كان يتلقى اتصالات من زملائه أثناء وقت العمل وخارجه للاستفسار والشفاعة أحيانًا.
كانت صدمة الجميع برحيله بحجم قربه منهم وخدمته لهم، وحتى عندما تداولت المواقع نبأ نعيه والخاتمة الحسنة التي ختمت بها حياته، كنت أقول للجميع: إن يختم لك بخاتمة السيد حسين وأنت في محراب صلاتك ساجداً في أشرف الأوقات بين الطلوعين، فهذا يحتاج مزيدًا من الاستقامة التي لازمها الفقيد الغالي والصدق الذي عاشه مع نفسه وربه وأسرته ومحيطه الاجتماعي، وقد ورد في الأثر عن الإمام الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام): “من أحب أن يخفف الله عز وجل عنه سكرات الموت، فليكن لقرابته وصولا، وبوالديه بارا، فإذا كان كذلك، هون الله عليه سكرات الموت، ولم يصبه في حياته فقر أبدا”.