ثمة مصطلحات متشابكة ولكشف أحدها ينبغي الاستعانة بآخر وكشفه وتوضيحه، ومصطلح نقد النقد أراه يرتبط بمصطلح نقد الحداثة أو بما يعرف بما بعد الحداثة، فما المقصود به وما علاقته بحديثنا حول النقد؟ هذا ما سأسعى إلى توضيحه.
الحداثة مصطلح ليس بالجديد، فهو يدور على الألسنة منذ قرون عديدة، ولنا – نحن العرب – نصيب منه، حيث برزت معركة التجديد والتقليد أو معركة الحداثة والقدامة بين الشعراء باعتبار الشعر علم العرب الذي يحوي مآثرهم وتاريخهم ومجموع ثقافتهم بل وديانتهم كذلك.
فكيف فهم العرب الأوائل مصطلح الحديث أو التحديث وكيف تعاملوا معه في إطار الثقافة الإسلامية وإلى ماذا وصلوا؟ هي أسئلة على الباحث الناقد طرحها ومحاولة الحصول على الإجابات قبل أن يصل إلى الحاضر ويقيم الصلة بين النقد اليوم والنقد في الأمس.
الحديث أو الحداثة مرتبط بمصطلح لغوي وهو “حدثان الأسنان” أي بداية نشوئها وخروجها في الفم، ويعني أن التالي من الأيام سيشهد اكتمالًا لمجموع الأسنان النابتة وسيتغير حجم الفم وشكله والطعام الممضوغ وستكون هنالك أشياء لا يمكن التنبؤ بها من قبيل ما الذي سيأكله الإنسان أو في ماذا سيستخدم أسنانه.
من هذا المنطلق فهم العرب القدماء الحداثة باعتبارها تطورًا طبيعيًا لا بد منه، وكذلك فهموا أن هنالك استتباعات يأتي بها، فهم يدركون البدايات ولا يعرفون النهايات، وهو ما جعلهم إزاء مأزق القبول بالتغيير أو رفضه، ولعل الأسلم هنا أن نقول إنهم حاولوا تأخيره وضبطه، ولكن هل كان بالإمكان ذلك؟
لا يُعتقد أن العرب القدماء استطاعوا إيقاف التغيير وإنما تمكنوا من إبطائه فحسب حيث قاموا بالمناوشات المتعددة وأوجدوا قضايا من قبيل اللفظ والمعنى والسرقات والخصومة (كما بين الطائيين البحتري وأبي تمام) وجميعها تصب في خانة واحدة هي محاولة إبطاء التغيير الذي لم يحدث.
انتقلت الحداثة بعد تلك الخصومة الشديدة إلى نوع من التوافق مع دخول العصور الإسلامية مرحلة القبول بالأجنبي أو الوافد من غير العرب وكثرة الشعراء الذين ظهروا، فهذا أبو عمرو بن العلاء يقول “لقد كثر هذا المولد وحسن حتى هممت بروايته” وهو ما يشير إلى تغير في الثقافة العربية.
بهذا التغير واتجاه البوصلة ناحية الأشعار الجديدة احتاج العرب إلى نوع من القدرة على قراءة ما يأتي به الشعراء فأنتجوا علم البلاغة بأقسامه الثلاثة (بيان – بديع – معاني) ليكون الضابط لهذا الإنتاج الشعري المنفلت عن عقاله، وقد استطاعوا إلى حد ما ضبطه وتقنينه، وجعلوا النقد البلاغي أساسًا يتم الاعتماد عليه للقراءة والشرح لما ورد عن الشعراء.
ولكن الأيام تدور بسرعة فإذا بهؤلاء العرب يجدون ثقافتهم في انحطاط وتخلف وبقاء على الصيغ الجامدة وقد أثّر ذلك على الشعر بطبيعة الحال فتوقف عن النمو واتخذ لنفسه أمثلة قديمة يعود إليها ويحتذيها فكثرت المعارضات (كتابة قصيدة على ضوء قصيدة سابقة مستخدما ذات الوزن والقافية) وأنشئت لذلك الجلسات والمسابقات وأشهر من قام بها البارودي الشاعر المعروف.
إن عودة الشعراء لمعارضة الشعر القديم والكتابة بما يشبهه هي عودة إلى القديم ومحاولة التمثل به باعتباره العصر الذهبي للشعر ولا يمكن الإتيان بأجود منه وقد انعكس ذلك على النقد فتوقف تمامًا عن الحركة وبات جامدًا لا يمكن تطويره وبهذا وقع العرب في مأزق ثقافي مثلما هم واقعون في مأزق حضاري.
ولم يتح للعرب الخروج من هذا المأزق إلا بمساعدة أوروبا وأفكارها ومناهجها التي جاءت من كل حدب وصوب فأثرَت الدرس البلاغي واهتمت بتطوير عمل الناقد وأدواته وكيفية مقاربته للنصوص ولكنها بدأت بداية مشؤومة بحسب الكثيرين حيث اتجهت أولًا إلى نقد الدين المسيحي ونصوصه وهي الفترة التي أطلق عليها الحداثة.
الحداثة إذن المقصود بها نقد الدين المسيحي ومنشؤها الأساس ما سمي عصر النهضة لدى الغربيين والتحولات الكبيرة والعميقة في ثقافتهم واتجاهاتهم والانفجار المعرفي الذي رافقهم إبان فترة هي من أحلك الفترات العربية تنازلًا عن الهيمنة الحضارية والسيادة الثقافية.