أول عاشقين عرفتهما في حياتي كانا أمي وأبي، وبما أن ليلَ العاشقين يطول فهكذا كان ليلهما. كنا أنا وإخوتي وأخواتي نصحو الصباحَ للرواح للمدارس وحينها قد يطرق والدنا البابَ في أيةِ لحظة مبللاً بالماءِ والعرق يبدو عليه أثرُ السهرِ والتعب!
لم يكن يتسكع الليلَ ويقضيه في الحاناتِ والمَقاهي والمجالس هرباً من حبه وزوجته في أرجيلةٍ أو كأسٍ أو سيجارة، بل كان يهرب إلى عمقِ البحر بعيد منتصف الليل صيفاً وشتاءً. يلتحف البردَ والحر ويجري خلف ما يعطيه إياه الله من رزقٍ ليطعمنا إياهُ في النهار.
كلما هبت رياحُ الشتاءِ الباردة تذكرتُ ليلَ ذلك العاشق وليالي بحارةَ القرنِ الماضي الذين كان منهم. إن كنتَ تحسبهم لم يستمتعوا بالحياة فأنتَ واهم! حيثُ هم وهبوا للحياةِ وأعطوها الطبيبَ والمهندسَ والمدرسَ والمفكرَ والعامل الذين تراهم اليوم. كانت أصعب أيام الصيادين البسطاء في الماضي على أطرافِ الخليج في أشهرِ الشتاء، حين تشتد الرياحُ الباردة، ويكون الصيدُ في ساعاتِ الفجر. مياه البحر المالحة كانت تجري دماً في عروقهم فأحبوا تلك المهنةَ ولم ينقطعوا عنها إلا حينَ أقعدهم المرضُ أو ماتوا. ومن بعد جيلهم دفنت الرمالُ شواطئَ ومياهَ البحرِ الضحلة وتلك الطرق من العشقِ للحياة.
لم تكن الأم تتسكع في الفراش حتى طلوع الشمس أو لساعاتٍ بعدها. بل كانت تنهض قبل أن تنهضَ الشمسُ من مخدعها وتغني نشيدَ الأمل والعمل “بكرة تكبر الصغار وتعمر الديار”. يومٌ شاق من العمل يبدأ بحلب البقر وتجهيز الصغار ومساعدة الزوج العاشق في أخذ القليل مما اصطاده في الليل للبيع ومبادلته بما يحتاجه الصغار. ولا ينتهي إلا بعد العمل بين النخيلات والشجيرات حتى المساء!
أبي وأمي لم يحتفلا بالحب والعاطفة ولم يعبرا عن حبهما لبعضهما البعض عن طريق إرسال بطاقة معايدة أو إهداء الزهور، لأنهما ببساطة لم يملكا حتى قيمة تلك الزهرة، لكنهما ملكا كما غيرهما من ذلك الجيل المعطاء الحياةَ ثم وهباها لغيرهم الذين يستمتعون بها اليوم وكثيرٌ منهم يتسكع حتى ساعاتِ الصباح دونَ أن يكونَ للحياة عنده معنى! هما من جيلٍ قال عنه الفرزدق:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا ياجريرُ المجامعُ
إن كنت تقضي الليلَ كما قضاهُ هؤلاء العشاق في العملِ والعبادة وصناعة الحياة، فطوبى لكَ ولمن بعدك، وإلا فأنت تقترب كثيراً من الشيطانِ ومن المقبرة. ولتعلم أنك آلة مصنوعة لتبقى صامتةً كثيراً من الليل وحيَّةً طوال النهار وإلا كنت عرضةً لكثيرٍ من الأمراض والأعراض والإجهاد ومتَّ باكراً دون أن تعلم السبب!
وإن كنت تصنع الحياةَ كلَّ يوم وتهبها لمن بعدك، فبخ بخٍ لك، وإلا يجب عليك أن تسأل: ما معنى الحب؟ وما معنى عيد العشاق؟