كان فجر اليوم بارداً، لكن تلكَ البرودة لم تمنع الطيورَ المهاجرة إلينا من أماكنَ أكثر برودة أن تتجمعَ على ضفافِ شاطئ البحر وكأنها تقول: “سأعود إلى وطني حين ينتهي الشتاء ويأتي الربيع”. هكذا هي الطيور تجبرها الظروف أن تتركَ أماكنها وتهجرها بحثاً عن الحياة، لا تذرف دمعاً ولا تحس بفراق. والأجمل في رحلتها أنها لا تعترف بحدود ولا يستطيع الإنسان أن يسألها أو يمنعها من الوصولِ حيث تريد.
رحلة الإنسان عن أرضه هي أقسى رحلة بين الكائنات الحية، فمهما ألفَ من المنازل الجديدة لابد أن تستهويه أرضه وينازع وجدانه العودة إلى ذلك التراب الذي مشى فوقه حافياً، واحتل مكاناً في ذاكرته لا يمحوه أجملُ الأتربة. كل تراب يبقى مستعاراً في نظر الإنسان إلا ترابه الذي منه جاء، كيف لا وفوق ذلك التراب تصرمت أيامُ صباه وغزل كلِّ العلائق والصلات؟ غرامٌ بذلك التراب قال عنه أبو تمام:
نقّلْ فؤادكَ حيثُ شئتَ من الهوى
ما الحبُّ إلا للحبيبِ الأولِ
كمْ منزل في الأرضِ يألفه الفتى
وحنينُه أبداً لأولِ منزلِ
يحكي مهاجر الإنسان عن وطنه حين يقول: “كل الأوطان مستعارة إلا وطني، وكل الثياب المستعارة لا تدفئ وإن كانت تدفئ فلن تدوم”. وأصعب هجرات الإنسان التي تهد حيله وقوته حينما يكون غريباً حيث يكون، ينتظر الربيع المجهول! ليس إلا حب الحياة الذي يجعل الإنسان يعيش اليوم في انتظار الغد الأجمل، في الحرب منتظراً السلام، في الفقر منتظراً الغِنى، في المرض منتظراً العافية، وفي الغربةِ منتظراً الوطن!
كتب علي بن العباس الرّومي قصيدةً لسليمان بن عبد الله بن طاهر يستَعدِيه على رجلٍ من التجار، يعرف بابن أبي كامل، أجبَره على بَيْع داره واغتصبه بعض جُدرها، بقوله:
ولي وطـــنٌ آليـتُ ألاّ أَبيعــهُ
وألاّ أرى غيريْ لهُ الدهرَ مالِكا
عهِدتُ به شَرْخَ الشبابِ ونعمةً
كنِعْمَةِ قوم أصبحُوا في ظِلالِكا
وحبَّبَ أوطانَ الرجـالِ إليهــمُ
مآرِبُ قضَّاها الشبابُ هُنـالـكـا
إذا ذَكَــروا أوطانَهم ذكَّـرَتْـهُـمُ
عهودَ الصِّبَا فيها فحنُّوا لذلِكـا
لقد ألِفَتهُ النفـسُ حـتى كـأنّـهُ
لها جَسَدٌ إن بانَ غُـودِرَ هالكـا