وجدتُ رسائلَ ملك الموت، عزرائيل، من أقصر وأصرح الرسائل التي يفهمها الصغيرُ والكبير، والإنسان والحيوان. رسائل تصل الأموات والأحياء في الآنِ ذاته. أكاد أتخيل أن من شارف الموت يقرأ رسالةً من كلماتٍ قليلة: مُحِيَ اسمكَ من ديوانِ العطاء! ثم تمر الآلامُ والذكريات من تلك الرسالة للحي ويقرأها: هل تعرف ذلك السليم الذي رأيته البارحة؟ لقد تم مسح اسمهِ من ديوان العطاء ومات. هل تعرف ذلك الشاب؟ هل تعرف ذلك الغني؟ وأفظعها: هل تعرف ذلك الحبيب؟ لقد تم مسح اسمه.
رسائل في وضوحها تجعلنا مثل ظبيةٍ ابتعدت عن القطيع فاصطادها السبع، ترى الظباءُ الآخريات الدم والعظام وتجفل من صوتِ حفيف أوراقِ الشجر وخفقِ أجنحة الطيور. مشاعر قالت عنها أمي رحمها الله في أمثالها: إذا رأيتها في جارك فاحسبها في دارك وقال عنها الشاعرُ الكويتي خالد الفرج محذراً من الغفلةِ وعدمِ أخذ الحيطة:
فَمَنْ تَغدَّى بأخي ضحوةً
حتماً تعشَّى بي في ليلتِهْ
وكلنا ينشدُ في سِرِّهِ
ما قالَهُ الشاعرُ في حِكمتِهْ
“مَنْ حُلِقتْ لِحْيةُ جارٍ لَهُ
فلْيسكبِ الماءَ على لِحيتِهْ”.
لو كان في يدي أن أرسلَ رسالةَ استعطافٍ لمَلك الموت لكتبتُ له التالي: أيها الملَك الكريم
أنت ترمينا كالظباءِ الموسومة كلَّ صباحٍ ومساء، ونعرف أن سهامكَ وخناجرك لا تخطئ. نحن ضعفاء ولا نستطيع صدها ولا تحاشيها وأنت لا حول لك ولا قوة في رد الأمر الموكل إليك.
سهامك في هذه الآونة كثرت وصارت تصيب من كنا نظن أنك لن ترميه الآن! أصابت أناساً أصحاءَ وأقوياءَ وأحباءَ مقبلونَ على الحياة. ونحن بصدد رفع عريضةِ دعاء لربنا أن تقلَّ تلك الأسهم فلا تصيبَ أحداً، ولو لبرهةٍ من الزمن! وإن أصابت أن تكونَ بعيداً عمن نعرف وعمن نحب.
نطلب منك أيها الملك الكريم أن تضمَ صوتك إلى أصواتنا في الرجاءِ من الله أن تستجاب دعواتنا. نحن نعلم أن قصر أعمارنا ربما كان بسبب معاصينا وجحودِنا لنعم الله، وربما هي هكذا كتبت لنا! فهلا رفعنا أيدينا نحن وأنت بالطلب؟
أيها الملك الكريم: نحن نعلم أن كلَّ شجرٍ يموت وكلَّ زرعٍ يجف وكل نَفَسٍ ينقطع، ومع علمنا أن:
حكمَ المنيةِ في البرية جارٍ
ما هذه الدنيا بدار قرارِ
بينا يرى الإنسانُ فيها مخبراً
حتى يُرى خبراً من الأخبارِ
لكننا سوف نصر أن نجأرَ ونرفعَ أصواتنا بالدعاء ونتضرّع إلى الله، راجينَ ألا تموتَ تلك الحقول ولا تجف تلك الأزهار اليانعة وأن تقفَ الشمسُ طويلاً قبل الغروب.