في ربوع الصحراء

اعتادت عيناي على مناظر مألوفة، وتنفس هواء منطقتي الساحلي، لكن في صباح يوم دراسي مشرق استلمت خطابًا من مدرستي، مضمونه رحلة ميدانية إلى الصحراء.. الصحراء؟! عندها كنت أشعر بالأدرينالين يتدفق في جسدي.

وفي اليوم التالي اجتمع رائد النشاط الأستاذ سمير آل ربح بنا نحن طلاب العطاء، كان عددنا حينها سبعة عشر طالبًا، بدأ الأستاذ الموقر بشرح فقرات الرحلة وأهدافها والأمور الأساسية فيها، وشدَّد على أهمية ارتداء الملابس الدافئة في هذا الجو الشتوي، كنا نحترق شوقًا لهذا اليوم العظيم.

وفي صباح يوم الثلاثاء الثاني من شهر جمادى الآخرة ذهبت إلى المدرسة حاملًا فضولي وتساؤلاتي لاستكشاف بيئة جديدة، وبعد نهاية الاصطفاف الصباحي مضينا نحو رائد النشاط لأخذ التوجيهات وتعليمات السلامة، وبعدها بفترة وجيزة انطلقنا والحماس يأخذنا، والتساؤلات تدور في أذهاننا، نطوي المسافات ونحن لا نشعر بها، فكان كل واحد منا يطرح سؤالًا عن الصحراء ونحن ننتظر الإجابة من الأستاذ مكي القصاب، فأخذنا الحديث عن النباتات وعن الصحراء وأجوائها وإمكانية الحياة فيها.

إلى أن وصلنا! أول خطوة أخطوها انزاحت عن ناظري صورة رسمتها في ذاكرتي منذ طفولتي التي تتمثل في بيت من الشَّعَر وبئر ماء، فأذهلني الجهود المبذولة في تجهيز المخيم بالجلسة المعدة والماء الوفير الذي يُسحب بمضخة، حتى الكهرباء قد أُوصلت بمولد خاص، شعرت حينها بعزلة عن العالم الخارجي.

وجبة الإفطار هي بداية رحلتنا الذي كان لها طابع خاص، حيث كان في عراء الصحراء، وما هي إلا لحظات وقد تعالَتْ ضحكاتنا على مدى هذه الصحراء الخاوية !

وما إن انتهينا من التهام طعامنا الذي أمدنا بالطاقة والدفء حتى انطلقنا في رحلتنا الاستكشافية عن شتى أنواع النباتات المتواجدة في الصحراء، في البدء أثار انتباهنا وجود آثار رِجل طير في المخيم قد مَرَّ من هنا؛ ليتوقف هنا الأستاذ مكي ليصحح لنا معلومةً خاطئة شائعة لدينا ألا وهي أن لا وجود للحياة في الصحراء.

وأول نباتٍ واجهناه هو نبات الضمران وهو نبات عُصاري (عند عصره يخرج ماء)، وأوراقه مجرد حبات خضراء وتكون بهذا اللون عند بداية نموها ثم تتحول إلى اللون الأحمر، وفي نهاية دورة حياتها تتحول إلى اللون البنفسجي، وهي صالحة للأكل، وهي نبات محلي، يحتوي على كميات ماء كثيرة في الشتاء، ونبات الضمران متواجدة بكثرة في الصحراء، يمكن لكل من يذهب إلى هناك أن يراه.

ووجدنا كثيرًا من آثار المواشي والزواحف، ووجدنا البَّعْر (فضلات الإبل)، فعلمنا أن مِن تكيفات الحيوانات في الصحراء إخراج فضلات جافة للحفاظ على الماء بداخلها لكيلا تُصاب بالجفاف فتهلك، وهنا توقف الأستاذ سمير ليشير إلى مسألة شرعية ألا وهي: هل فضلات الحيوان المأكول لحمه (مثل الغنم) طاهر؟ فكانت الإجابة الصادمة: نعم!

وقد تعرفنا على نبات طفيلي (وهو الذي يحصل على الغذاء من خلال التطفل على نبات آخر)، وهو نبات العرجون عروقه عميقة لكي تستطيع الامتداد إلى النبات آخر، يصل طوله إلى نحو 60سم، ويتكاثر بالأبواغ، وهو نبات حولي.

وقد أشار الأستاذ مكي إلى أن النباتات في الشتاء تكون أكثر مما هي عليه في الصيف، والنباتات في الصحراء تنمو بعيدة لكيلا يحصل تنافس على الماء، وكذلك فإن الحيوانات في الصحراء تنشط في الليل، ولكن هذا لا يعني عدم ظهور الحيوانات في النهار.

وبينما كنا نرسم خطواتنا على الرمال، صادفنا نبات غريب ألا وهو نبات الجرجار، وأزهاره ذات لون أصفر فاقع، ويأتي مجموعات كثيرة، ذات لون مشابه؛ مما يسبب خطأ المستكشفين في التفريق بينها، وهو نبات حولي (يوجد في السنة في موسم واحد).

ولا تكاد أرض تخلو من تلك الشجرة المباركة ألا وهي النخلة، وقد تعرفنا على واحدة من طرق تكاثر هذه الشجرة العريقة، وهي أن للنخلة الذكر حبوبَ لقاح، تنتقل هذه الحبوب إما عن طريق الريح أو عن طريق الحيوانات الناقلة، وللنخيل جذور سطحية من أجل الارتواء من مياه الندى، علمًا أن النخلة تحصل على المياه من قطرات الندى أكثر مما تحصل عليه من الأرض، وللنخلة تراكيب تسمى الكرب، وهي تراكيب وظيفتها المحافظة على رطوبة جذع النخلة.

وبيِّن الأستاذ مكي جيولوجيا الصحراء والطبقات التي تتكون منها بدءًا من الرمال التي نشاهدها ثم الطبقة الصخرية، ثم الطبقة الملحية، ثم الطبقة الصفراء، وصولًا إلى أهم طبقة وهي طبقة الحوض، حيث توجد المياه الصالحة للشرب، وهذا يدل على أن هناك مياهًا في الصحراء، وتمتد هذه الطبقة في صحرائنا من الرياض إلى البصرة، وآخر طبقةٍ هي طبقة الصخور الصلدة.

وحرصًا من معلمينا على تزويدنا على المعرفة بأنواعها اصطحبونا إلى حظيرة سفينة الصحراء، وكانت المرة الأولى التي أشاهد فيها الإبل بهذا القرب، وحظيتُ بالتربيت على رأسها، ولاحظت سنامه البارز الذي يستخدمه في تخزين الطعام، والشَّعر الكثيف على عينيه الذي يمنع دخول الغبار والأتربة وغيرها، أما شفتاه فالعليا فهي مشقوقة لكي يستطيع أن يتناول الشوك من دون أن يجرحه، وله ما يشبه الوسادة في أعلى فخذه ليستطيع الجلوس بكل راحة. أذناه قصيرتان وأنفه صغير، حتى لا تتسرب الأتربة إلى جوفه، وحوافره عريضة مبسوطة ليمشي في الرمال دون أن يغرز في عمقها، فما أعجب خلق الله تعالى الذي يقول فيها: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17].

وواجهنا صعوبةً في العثور على نبات الطرفوف/الطرثوث، وهو نبات طفيلي ذو جذورٍ عميقة وهو يؤكل مشويًّا أو مسلوقًا، ولا تؤكل قمته الحمراء فهي مُرَّة، والمضحك في الأمر أن قمة الطرفوف تحتوي صبغة، فقمنا باستخدامه للرسم على وجوهنا.

ارتفعت الشمس في السماء معلنةً وقت المساء ووقت شدِّ الرحال من التجوال في العراء ونبش الرمال، للبحث عن الحياة والعلم، رجعنا بعدها في اليوم التالي إلى مقاعد الدراسة وتقليب صفحات الكتاب للتزود بالعلم والمعرفة مجددًا.

———–
هذه المقالة جاءت بعد رحلة إلى الصحراء، من برامج النشاط العلمي في مدرستنا “عطاء بن أبي رباح المتوسطة” بالقطيف.


error: المحتوي محمي