ورد عن الإمام الصادق (ع): “إنما سُمِیَّتْ فَاطِمَةُ فَاطِمَةَ لأِنَّ الْخَلْقَ فُطِمُوا عَنْ مَعْرفَتِهَا” (بحار الأنوار ج ٤٣ ص ١٣).
من الدلائل على إحاطة الضعف بنا كبشر هو القصور العقلي عن إدراك ما نقف أمامه حائرين كالعلم الغيبي والمستقبلي، وشخصية عظيمة امتازت بالألق والرقي في كل الاتجاهات وبأعلى المستويات لا يمكن الإحاطة التامة بها، وهذا ما عبرت عنه الرواية الشريفة في الإشارة لعلة تسمية سيدة نساء العالمين باسم فاطمة (ع)، وذلك لأن العقول مهما تحركت وبحثت وتلاقحت فإن مبلغ ما تصل إليه هو معرفة جزئية لا أكثر، فالزهراء (ع) كنه إلهي نوراني فوق مستوى التفكير البشري لا يمكن معرفتها تمام المعرفة.
وأي سر مكنون كنتِ سيدتي الزهراء حتى ظللتِ سرًا لا يمكن لعقولنا القاصرة أن تحيط بجوانب شخصيتك العظيمة، وقد تكسرت الأقلام حينما انبرى وخاض الكتاب لبحث معالم وجودك النوراني فلم يحيطوا بما أملوا، فأنى لتلك الصنعة الربانية أن تصل لها مدارك الأفهام وتستوعب ذاك الوجود الفياض!!
فانظر – يا رعاك الله – إلى عامل الزمن الذي عاشته مولاتنا الزهراء (ع) البالغ ثماني عشرة سنة، إنه زمن قصير ماديًا ولكن في عطائها وإشراقة أنوار الدروس والمعطيات التي قدمتها لا يمكن وصفها وحصرها، فقد امتدت فيوضاتها لجميع الأبعاد العبادية والعقائدية والفكرية والاجتماعية والأخلاقية، فقد كان ألقها الكمالي وجه الاقتداء والتأسي بشخصيتها النورانية.
فعلى المستوى العبادي قد حققت الخشوع والخشية من الله تعالى، وأنست بذكر الله تعالى والشوق إلى مناجاته حتى عمرت به ليلها ونهارها دون فتور، لترسم لنا معالم الصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر والغاية المحققة لروح الطهارة والنزاهة النفسية.
وعلى مستوى الإنفاق وتلمس حاجات المعوزين بلغت (ع) أعلى درجات العطاء ألا وهو الإيثار، إذ تقدم ألم وحاجة غيرها على نفسها فلم تكن نفسها بالتي تقبل التوقف عن تقديم ما يبلسم آهاتهم.
وعلى المستوى الرسالي التبليغي كانت صنوًا ومعينًا لأبيها (ص) وبعلها (ع) في طريق هداية الناس إلى الحق والمعرفة والهدى، فقد كانت تعقد الدرس في بيتها لتعليم النساء معالم دينهن وتفسير الآيات القرآنية وتبيان مضامين الدين الحنيف.
وهكذا تتعدد موارد عطائها ودورها الكبير الذي جعل منها صاحبة معانٍ عالية نتعرف على جوانب منها من خلال قراءة تأملية لسيرتها الغراء، وأما الإحاطة بكل تلك الأسرار والمضامين فهو فوق ما ندركه، إذ اصطنعها الباري وصاغ شخصيتها التي تجلت منها كل معاني القيم والتفاني والتضحية والمعرفة، فكانت النموذج الذي يحتذي به كل مؤمن ومؤمنة يسعى ليكتسي بحلل الإيمان ومكارم الأخلاق وتيجان المعارف الحقة.
الزهراء (ع) لها تلك المنزلة العالية التي عبر عنها الرسول الأكرم (ص) بأنها بضعة منه وروحه التي بين جنبيه، وأنى لكل تلك العقول الراجحة وأقلام البيان والأساليب الأدبية والقراءات التأملية أن تبلغ مدى معرفتها، وأمام بحر المعاني والقيم الزاخرة قصارى ما بلغته من معرفة جزئية هي كالغرفة بل القطرة من المحيط المائي المتلاطم.
وهذه المعرفة الجزئية بشخصيتها المعطاءة لا تعني توقفا عن الدراسة التأملية والقراءة المتمعنة بسيرتها الشريفة، وإنما هي تعريف بمقامها العالي الذي لا يمكن لعقولنا القاصرة إدراكه بنحو شمولي، ومن جهة أخرى يعد تهيئة تحفيزية للانطلاق نحو الدراسة والاستنتاج المعرفي، وتكوين تلك الأفكار التي تتناولها العقول الواعية، ومن ثم تبدأ المرحلة الأخرى للاقتداء بها وهي تحويلها إلى سلوكيات وتصرفات على أرض الواقع، بحيث يكون منطقنا وعلاقاتنا فاطمية تتميز بالرقي الأخلاقي والثقافي.