بني: تبرك بثوب أبيك ويده ورأسه

لعلنا نبحث عن كنز مملوء بالذهب والمجوهرات لنشعر بمدى السعادة والفرحة، وقد تستغرقنا الأيام والليالي لنبحث عن فكرة أو نصيحة أو مشورة ونجاهر بقيمتها العلمية والفكرية أو خبرتها التي جعلتها تصدر فكرتها سواء تحت منبر أو بين قصاصات ورقة أو كتاب ثمين يشدنا نهجه.

أما كنز الخبرة الحقيقية التي بين أيدينا، فإننا لا نراه بل لا نريده، بل نقلل من شأنه تارة وأخرى لأننا نبني نفوسنا على أن البعيد أجمل والقريب لا يمثل شيئًا، وما ذلك إلا لأننا نتغيب عن واقعنا القيمي وسبلنا الصحيحة أو نغيبها.

أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لابنه الحسن عليه السلام: “ووَجَدْتُكَ بَعْضِي – بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي – حَتَّى كَأَنَّ شَيْئاً لَوْ أَصَابَكَ أَصَابَنِي – وكَأَنَّ الْمَوْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِي – فَعَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِينِي مِنْ أَمْرِ نَفْسِي – فَكَتَبْتُ إِلَيْكَ كِتَابِي”.

ليس وجدان فقد بل وجدان شعور وحضور، فهذا الكتاب العظيم بثه أمير المؤمنين (ع) ملفتًا إلى جملة عظيمة جدًا وهي الإشارة النفسية والعاطفية إلى علاقته بابنه، وأن المشورة والوصية التي يعطيها إياه هي نابعة من نفس غارقة في حبك والخوف عليك، وهذه أولى الخفايا التي يفتقدها شعورنا بأهمية وقيمة ما يأتينا من أبينا من النصيحة والتوجيه.

كانت التربية الأسرية والمؤثرات الاجتماعية تحتم على الأبناء طاعة أوامر آبائهم ولا يوجد لهم خيارات كثيرة في مخالفتها أو تجنبها أو الأخذ ببعضها إلا بما يعتبر تمردًا وعصيانًا على الوالد، وسواء كان التمرد لضعف الأب العلمي والفكري أو لتوجهات الابن المختلفة مع منهجية أبيه.

ما نواجهه اليوم هو القطيعة الخبروية والقيمية والعاطفية بين الأب وأبنائه، ولم يبق منها بشكل عام سوى البروتوكولات الاجتماعية التي تجمع الأسرة ليلة أو يومًا يأكلون ما طاب من الطعام أو وقت أفراح أو أتراح، ثم يعود كل شخص إلى مكانه بينما يرقص قلب الأب شوقًا إلى لقائهم الثاني سواء برؤيتهم أو رؤية ا
أبنائهم ويعتصره الألم إن أصاب أحدهم تعب أو مصاعب.

الأسرة النواة أفقدت الدور الفاعل للأبوة وجعلت الفردية أساسًا للعلاقة بين الأب وأبنائه وقوَّت من الهوة بين جيل صاعد وجيل كان نشطًا مجاهدًا في لقمة عيشه قويًا فخسرت الأسرة دورًا قيميًا مؤثرًا، وانعكس ذلك بشكل مباشر على الضياع القيمي للمجتمع الذي يشكله تجمعات منهجية مختلفة.

ولعل أهم التوجهات التي ساعدت على ذلك هو عنوان استقرار الأسرة وعدم تحمل المشاكل الأسرية ومشاكل الإخوة والزوجات وغيرها، مما حتم على الأسرة التباعد بينهم وإضعاف تلك العلاقة العاطفية الكبيرة.

نرى أنفسنا تمجد صورة فتاة جامعية تقبل رأس أبيها الذي يعمل في نظافة الشارع لأنها تمثل قيمة رمزية لقيمة أخلاقية كبيرة، وربما يكون الاختبار الحقيقي لنا عندما نجلس مع أبينا لنطرح عليه استشارة صغيرة وأخرى كبيرة ثم نعمل بما يطرحه وإن أضفنا لها تعديلًا، ونمجد تلك النصيحة لتكون وسامًا حقيقيًا على محياه.

نعم قد نواجه مصاعب مع أب عصبي وآخر لا يتفهم الأمور وآخر متسلط وآخر بخيل… إلى غيرها من المشاكل التي تجعلنا نبتعد لأجل أن لا نفقد العلاقة معه ونسايره ولا نهتم بتوجيهاته، وهذا ما يرومنا إلى أن نتفهم سبل التعامل مع المشكلة وإدارتها لا الهروب منها.

رسالة الحقوق للإمام السجاد (ع): “وحق أبيك أن تعلم أنه أصلك، وأنه لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك ما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه، فأحمد الله واشكره على قدر ذلك. ولا قوة إلا بالله”.

وأخيرًا، إننا نجفو آباءنا عندما نُفقدهم نعمة عظمية وهي استمتاعهم بأبنائهم ووجودهم، ونجد القيمة الحقيقية حينما تشير الآية الكريمة إلى معنى حقيقي كبير “المال والبنون زينة الحياة الدنيا”، ولا شك أن ابتعاد الأبناء يفقدهم هذه القيمة الجميلة ويقوي من حالة التفكك الأسري، مما يجعل عملية توزيع الأسرة وإضعاف المعاني القيمية أمرًا سهلًا، ولن تجد الفتاة أيضًا صعوبة في الاستقلال مع توسع مفاهيم الانفتاح الاجتماعي.

بني.. تبرك بثوب أبيك ويده ورأسه ونظرته الحانية عليك، ولا ترفع عينك في عينه، ولا تقل له لا، ولا تبتعد عنه، ولا تقصر في حقه حيًا وميتًا، وكن البار به دنيا وأخرى، فانت أكبر عائد له في دنياه، فهو يفتخر بك، واوفِ له في أخراه، فأنت أعظم عمل يصله، فقم ببره وأوصِ أبناءك بدوام الدعاء له.


error: المحتوي محمي