مرور العابرين في جزيرة تاروت

في زمن ليس ببعيد مع بداية الخيط الضوئي لفجر كل يوم كنت أرى رجالاً من رجالات بلدتي يغادرون منازلهم الآمنة، حاملين ما يحتاجونه من عتاد للعمل في البحر والبساتين والمزارع المحيطة بجزيرة تاروت.

مع بزوغ الخيط الضوئي الذي يسرد دمعاته وهو يشع على وجهي من بين القصر الشامخ (قصر تاروت)، أرى وجوه رجال من أبناء بلدتي نبتت منذ زمان تنسج خطواتها على تراب (جزيرة تاروت)، تلك الوجوه التي تقرأ أثر الزمن عليها الذي غير لونها إلى السمرة، تسع كل الوجود بنخبوية وعفوية متفردة بعد أن رهنوا أنفسهم لمحبة وطنهم وبلدتهم (جزيرة تاروت) في بحرها وأرضها الطيبة ببساتينها ومزارعها ونغماتها الخاصة.

إن (جزيرة تاروت) نغمة منفردة من جبين خريطة الوطن الغالي الممتد من البحر إلى الصحراء بأناسها وبساتينها ومقاهيها الشعبية، كانت نغمة للناس الهاربين من صخب الروتين اليومي للمدن، ما يجعلك تتوغل في انتمائها في خلسة روحانية، أختار لنفسي مقهى بسيطًا يقع على جانب الطريق، أجلس على كرسي خشبي يحمل تاريخًا من مرور العابرين، وإلى جانبي يجلس رجل مسن ربما ينتظر شيوخًا هدهم الزمن، لأن المكان لا يُستَهوَى إلا بكأس من الشاي المخدر، وهو ما يجمعهم كل مساء بعيدًا عن الحياة العصرية بكل همومها وتجلياتها.

الشارع الرئيسي في الجزيرة كان منتشيًا بزواره من الناس البسطاء المقتنعين بقليل من الرزق، لكن فيه من جمالية العطاء الشيء الكثير، أناس يتنفسون بأريج العمر الذي ينثرونه عطاء وافرًا رغم صعوبة الحياة في ذلك الزمان، إلا أنها لذة العيش والعمل رغم أن الكثير من الأهالي غادروا الجزيرة إلى كل ربوع الوطن يمشون على الأرض التي جعلها الله ذلولًا لنمشي في مناكبها ونأكل من رزقه.

في جلسة المقهى استهواني سؤالًا لكي أسأل ذلك الرجل المسن الذي بجانبي عن فظاعات ذلك الزمن وما فعله بأناس مروا من هنا، وأكد لي بحسرة بالغة أن هناك أسماءً كانت خالدة في جزيرة تاروت، لكن الموت جرجرها يرحمهم الله تعالى وبقية رائحة من الذكرى، أناس كانوا روادًا لتلك الجلسات التي لها من الصيت مالها، قبل أن يتحولوا إلى نسمة هوائية عابرة تختلط ذكرياتهم برائحة الشاي المخدر وخبز التنور الساخن من يد خبابيز البلدة.

أماكن التراث في “جزيرة تاروت” تُعيد لزائريها بريق الوجود وجمالية المكان التي تجعلهم يولدون مرات ومرات في جيوب السكينة والصمت، واكتظاظ الحياة بالتراث وبالأشياء المألوفة للناس الذين اعتادوا عليها وفرزوا بها حياتهم، يبتلعني حب “جزيرة تاروت” ليس لأنها بلدتي ولكن لأنني عشقتها والعشق انصهار في المعشوق، وتأخذني الذكريات فيها لأيام الطفولة والصبا مع رفقاء الدرب لتغدق عليّ أنفاسها بنسمة باردة بين بساتينها الجميلة، نرتل الأناشيد من أجل فضاءات خلقت للحب وتغرد للهواء الطلق ترصد كل الأشياء الجميلة التي لا تنسى.

وفي الختام، إن “جزيرة تاروت” حضارة لأكثر من ٥٠٠٠ عام مثقلة بالتراث وسحر الماضي الذي تراه شامخًا بقصرها (قصر تاروت)، ومن تحته عين العودة وحمام تاروت اللذان هدهما الإهمال وجور الزمن، وفي نقوشات وزخارف بيوتها القديمة بحي “الديرة”، وعلى وجوه أهلها التي تعشق الحياة وجمالها، و”الديرة” هي المكان الذي يعيد لهم بريق الوجود وجمالية المكان.


error: المحتوي محمي