عرفتُ بالأمس أنني قد فكرتُ بما سأكتبهُ اليوم، وعرفتُ أنني في ساعتي هذه قد احتضنتُ قلمي وهمستُ له أفكاري البائتة، وسأقرأُ غداً نوايا الليل التي اجتاحت وسادتي حتى إذا أسفر الصبح صارت ذكرى، وأنا أحسبُ عمري بأيام الذكرى التي شاءت لها أوراقي أن تحيا.
ترغمني ذاكرتي على ألا أقف على أبوابها طويلاً، ولا أتشممُّ ريحها في بتلات زهور ذابلة اختبأت بين وجنات كتاب، ولا في أغلفة هدايا خجولة تجاوزت مخاضٍ رقيق لم يُجعِّد ُوريقاتها، ولا في توالي الأيام على عمرٍ قد مضى وتوقفت لحظاته في صفحات ألبوم الصور، وأنا قد أطلقتُ أجنحة الفراشات المهترئة من صندوقي القديم، وأنا قد تلافيتُ جميع تقاطعات الذكرى حتى لا أصطدم يوماً بحاجز الفراق! فوجدتُ نفسي قد أسبلتُ الغطاء على الفراق ومن حيث لا أحتسب حسرته عن الذكرى حتى صرت أسيرة!، أسيرة الوقت في سفري حتى انقضاء المدة، أسيرة عقارب الساعة في لقاءاتي فلا أتورع عن اختلاس النظر للساعة حتى انتهاء اللقاء، وأسيرة جار الكتابة على صفحات أصدقائي حتى أسمع جرس تنبيه الرسالة، وأنا كثيراً ما تؤرقني الأحداث المخططة والمناسبات المنتظرة، ولأن الحياة قصيرة فهي تنقضي كومضة البرق أو هي أقصر، ولكن هل حقاً الحياة قصيرة؟ أم أننا تجاوزنا حقبة الإنسان الأول وتجاوزنا جهله لأدوات الوقت الدقيقة فزاحمنا الحياة بمهامنا اليومية وبذلك أصبحت قصيرة جداً!، وعلى قصرها وانطواء أيامها في عجلةٍ من العمر نُقاتل على الذكرِ بعد الموت، وجُل مساعينا في الأرض في سبيلِ بصمةٍ نطبعها على ظهرها، حتى إذا فاضت الروح قيل يا أرض ابلعي مساعيه، أتساءل كثيراً هل بين الأرض والذكرى سرٌّ؟! أم أنها إحدى أدبيات الحياة الإجبارية والتي لا يد لنا في كتابتها، وددتُ لو عرفتُ لآلةِ الزمن سبيلًا لأطلقتُ ساعات الأحداث وأمسكتُ ساعات الذكريات، ولأبقيتها واقفةً على لحنٍ جميل وعطرٍ عبِق، عصيٌّ على الذاكرة إن سُلِب منها وصفُ نغمةٍ أو وصف عطر ، وليته عصيٌّ عليها وصفُ رائحة الوداع في راحةِ أحدهم على غير ميعاد، أو وصفُ صوته ذات مساء منقطع بلا صبح.
في كل ليلة تأتي الذكريات سريعة تنمنم على بُردةِ وسادتي، تُعاندني وتلملم طقوس الفراق خاصتي وتلقيها عبر شبابيك غرفتي فتلتقطها الريح غير آبهةٍ بي!