لم يكن الهدف من سرد قصص الحب في حياة الموسى لمجرد البحث عن غراميات الصبا أو تفتيش في خصوصيات ماضوية، بقدر ما هي شجاعة من قبل الفنان لتقديم سيرة حياته بصدق وشفافية، دون خشية من التأويل الشكلي، فهو متعود على قراءة سير الفنانين العالميين البعيدة عن الزيف، ومستدلا على مساحات البوح فيها، ومدركًا أن الحب هو شأن إنساني عظيم تتقاسمه القلوب النقية في كل زمان ومكان.
فقد اتخذ من تجاربه الحياتية مادة دسمه لمواضيعه الفنية، ومن ضمنها محطات الحب سواء في ريعان الشباب أو ما بعدها، سجل مشاهد الحزن والفرح المتراكمة كمادة أثيرية لرؤياه، جسدها تكوينًا مباشرًا تارة وأخرى على هيئة رموز مدغمة في بواطن أعماله، ومستلهما من ذكريات حبه كمرويات جميلة تستحق أن تروى لأنها جزء من تاريخ حياته كفنان لا يتبرأ منها، بل هي صفحة من عدة صفحات لمسيرته الحافلة.
ألوانه المشرقة في ثلاثية مشعلات موسيقى الأعراس من ضاربات الدفوف وعازفات الناي ومنشدات الأهازيج، هي تحايا تقدير لكل القلوب التي هتفت بزغاريد الفرح، المتوحدة باجتماع قلبين، ريشة مخضبة محبة بالروح الاجتماعية. واستفاض بوحًا لما وصل إليه قلبه بالعثور على ضالته المنشودة والتي أتت من خارج الحدود، معربًا بأن الحب لا يعترف بالأجناس ولا بالأوطان ولا بالأديان، يعترف بميل القلب للقلب وبعيشة راضية.
وبحث عن نماذج الحب العام فوجد في الموضوعات الدينية مرتعا خصبًا للرسم غايتها التسامح ونشر ثقافة حب الإنسان لأخيه الإنسان ، ومفتخرًا وممتنًا بسرد كاتب السطور لسيرته بما حوت من جميع جوانبها العديدة، ومن ضمنها تقلبات الحب وأحواله وصولا لمحطة استقراره الأخيرة والتي يتفيأ تحت ظلالها كشجرة وارفة خضراء ربيعية مزهرة على الدوام تعويضًا عن هجير الحرمان. مرويات الحب عند الموسى يعتز بها أيما اعتزاز وليس في عرضها أمام الملأ تمجيد للذات، بل عرفانا بقيم الحب لأنه سلوك طبيعي بين البشر. وكم يزخر التراث الإنساني بنماذج المحبين وقصص العشاق المتيمين، تتداولها العقول والقلوب معًا كترياق للنفوس الظامئة الباحثة عن الود والصفاء، فالحب يسمو بالنفوس، بل هو أكسجين حياة منذ الأزل إلى يوم يبعثون.
حب دال “لوليفين” مكلل بعش الزوجية، نابضًا بالحيوية والاستدامة الروحية.
ويرى الموسى أن إشاعة الحب بمعناه الواسع والشامل هو مطلب إنساني وحق مشاع، وعلى كل مبدع أن يسعي لإظهاره ضمن منجزه الفني، والحب هو الفطرة الطبيعية التي أودعها الله في قلوب خلقه، ولو ساد بمنظوره الراقي الواسع وبمعناه النبيل لتوقفت عن سكان الأرض جميع الويلات والفتن والمصائب والحروب وعم السلام أرجاء المعمورة.
إن تحولات الحب في حياة الموسى تحيلنا إلى؛ كيف يلعب النصيب في نهاية المطاف إلى حيث ما هو مكتوب ومقدر للفرد. وثمة كشف لمشهد الشد والجذب حول سيطرة المفاهيم الخاطئة عند البعض، والمتمثلة في النظرة الدونية لعمل المرأة، تلك فترة سادت ثم انحسرت عن واقع اليوم، تم استحضارها ليس بهدف الوقوف عند مروية الحب كمشهد متباين ومؤثر، وإنما تبيان حجم القسوة الظنية غير المبررة، مثال لأمثلة خائبة، مجحفة تغص بها ذاكرة من عاش بين زمنين، وصولًا لعزائم الموسى للنجاة بنفسه من ربقة استلاب عقله وارتهان تفكيره لما يريده المقربون لا ما يريده هو، سواء في الحب أو غيره، فقناعاته الفكرية أدركها مبكرًا قائلًا بأن الزمن حتمًا سيحرر العقول من قبضة الأوهام.
الوعي يجدد دماء القلوب التي عليها أقفالها والاستنارة تضيء العقول الخاملة، للنهوض والسير في دروب الحياة والتطلع لرؤية المستقبل بعين بصيرة.
الفنان الموسى عبّر عن احتفاليات الحب بأوجاعها ومسراتها في الكثير من أعماله الجرافيكية والزيتية، وكثير منها تم إنجازها في رحاب الكلية وما بعدها.
والجدير بالذكر أن الفنان أودع كل ما مر به من ذكريات الحب سواء له أو لأصدقائه حيث شكلها توصيفا عبر خطوطه وألوانه، وخصوصًا اللوحات التي تدور فيها أفراح النساء من تجهيز العروس وليالي الحناء وأغاني الأعراس، استحضرها مشهدًا تلو المشهد، ليس بغرض محاكاتها بعين تسجيلية فقط، إنما ارتحال لما وراء الشكل، حيث ترقد الأحلام المصادرة، ويتألق المعنى القابع في نسيج اللون ودينامكية التكوين، كثير من لوحاته هي مسرح لوعيه الفكري المبكر منذ أن كان طالبا في المرحلة الإعدادية، فالكتاب كان صديقه بالتساوي مع الكتاب المدرسي، ومن بين يديه قرأ سلامة موسى والعقاد والمنفلوطي وطه حسين، والروايات المترجمة، وغيرها من الكتب المحظورة، أحب القراءة وعشق منطوقات الحرف سفرا نحو الحلم، والمحرضون على المعرفة في صغره كثر ممن تبادل معهم الكتب، تلك كانت هداياهم الثقافية تناقلونها حبا للكلمة وعشقا لخير صديق في الزمان، فلا غرابة كيف تبنى الأفكار القادمة له من خارج الحدود. الموسى لم يكن مجرد قارئ عادي و”يصفط” الكتاب وينحيه جانبا، لا تعنيه القراءة المسلية إنما التي ثأخذه حلما لقيم أبعد، متشبثا بأفكار آمن بها زمنا، وكتب قيمة سطورها غذته حماسا واشتعالا، وترجم ما هضمه واقعا فعليا ملموسا، والتي أخذته سفرا لتطلعات حواسه وعقله ونبض فؤاده، قراءات أمدته باطلاعات نحو المغامرة والمثابرة، وأمدته بتجارب محسوسة عاشها وتمثلها يقينا، وهي مبثوثة في تكوينات ومواضيع لوحاته.
من هنا تقرأ لوحات الموسى بعيون مغايرة.