الموسى ونتاليا سفر للحلم والمعنى (23)

الشاب عبدالستار الموسى لم يكن ينوي الاقتران بزوجة من خارج ديرته، لكن  بعد المواقف القاسية التي تعرض لها غيّر اتجاه البوصلة، وفكر بتجرد بعيدًا عن عاطفة الأهل أو توجيهات عم أو تحذيرات أخ، قرر أن يكون سيد نفسه، ليس لأحد عليه من سلطان، غير منساق للإحباط أو الاستسلام عازبًا، مؤمنًا بأن حياة الإنسان لا تتكامل إلا بالزواج، داعيًا نفسه أن تأخذ حريتها المطلقة دون ملامة من أحد، ولا مخافة من سلطة أب، سيترك قلبه مفتوحا لأي قلب سيهواه أو يميل إليه بصدق وطمأنينة، ومن أي ملة كانت أو دين أو مذهب، يريد امرأة فقط تحبه ويحبها، ومقتنع بشخصيتها، سيحدد خياره بنفسه، لا وصاية من عزيز أو قريب أو صديق.

“الرجل الذي يفكر بعقله هو لا بعقل غيره؛ هو رجل حر” وعقلك الحر يحدد من تكون، والتفكير الصائب مرايا الجسور الفائز باللذات.

مر الوقت، تغاضيًا ونسيانًا، والأيام كفيلة بمداواة الجراح، تلتئم بالتفاؤل وبالعيش في جمال الحاضر، مرددًا: (كن جميلا ترى الوجود جميلا)، وأي جمال الذي يراه من سحر الفنون المتناثر في ربوع اتحاد الجمهوريات الاشتراكية  السوفيتية. الذائقة  تجد ضالتها بالعقول المبدعة، الفن يخفف من غلواء الحزن وضياع ما فات، والثوري يجدد زمنه ولا يركن للضعف، يحطم أسوار المتاعب، ويتجاوز النزوات، يقتحم المجهول بإقدام وثقة، والمغامرة مسكونة في روح الموسى، مأخوذا بالجد والتحصيل، والدراسة عينه المبصرة على المستقبل، أن تكون مناضلًا، العلم سلاحك في معركة الحياة، الجد والاجتهاد قوس الرامي نحو الهدف، والسعي في مناكب أراضي الخصب ضرورة، “ومن لا يعمل لا يأكل”، يحيا السائرون “للكولخوز” حي على الكفاح والتماع حبات العرق، سلام على الأيدي الكادحة الممتدة لجني  السنابل، مخضبة بشرف العمل، مبارك أيها المحصول، والجباه عمائم رسل يا من تتقاسمون اللقمة مع أفراد الشعب، إنكم تقتاتون الفرح بضمير الأمة الموحد، أيها الكادحون أنتم فرسان الوطن. “الأرض والخبز والسلام” شعار المؤسس القائد وعلى هديه يمضي المؤمنون بحلم  “البروليتاريا” حلم الملايين، يحيا عيد العلم والعمال، قوت الشبية في تمثلهم اليومي، القلم والريشة والكتاب  سلوك وعبادة.

الموسى تسري في دمائه عنفوان الحلم الأكبر، حلم المتقدة بصائرهم نحو التكامل الأممي، غائب في الوعي تحت مظلة قاعة الدرس، والقدر يفتح له أبواب السعادة، حين أطلت بإطلالتها البهية خفق القلب، قلب من؟ أتت تتمخطر تعبًا وعلى كتفها عدة الرسم لتستريح قليلًا، لاهية  العينين عنه، أو عينيها له، والقلب التقطها من بين الحسنوات أم هي من صوبت سهام النظرة، تتوالى النظرات تبادلًا، والوجهان يتوضآن ابتسامات، سرور لوحات مرفوعة تنثال ثناء وإعجابات، وقد يكون المنظر مألوفا عند الطلبة والطالبات ولا يلتفت له بالمرة، لكن القلبين ملتفتان لبعضهما، واللطف دماثة، ورائحة العطر تصعيد للاقتراب،  انجذابا تحت زخات المطر، تتوالى الألفة لإعلان الوداد، والريشة والفن مدد ومداد، المعامل وحدائق المكان واستديوهات الأكاديمية سيكروف للفنون الجميلة، شواهد، ورائحة الألوان أتت برائحة الحب كنسمة ربيع، أشعلت الحواس أياما وليالي، انتفض الجسد كجموح خيل اقتلع  ما تبقى من آثار أوجاع الحب القديمة، لقد مال قلبه لهوى وغرام ابنة الثلج.

ابن صحراء الدهناء أبلغ كاتب السطور  بكل تفاصيل البوح الجميل، وكيف تلاقى القلبان ووقعا أسيران للحب، وكذا تفاصيل خطبة يد نتاليا من أبيها، ومرة أخرى لن يكون الإفصاح هنا سينتقل وعلى لسان القلب المتيم في موقع آخر، اقطتعت جزئية بسيطة مما قاله من كلام مطول، فقط بلغة الأرقام، يقول الموسى: “لقد تعلمت اللغة الروسية في جامعة باتريسا لومبا خلال سنة و7 أشهر، ودراسة معمقة للغة في جامعة موسكو لمدة 5 أشهر، وبعد أن أنهيت سنة كاملة في كلية الفنون الجميلة جاءت نتاليا للتسجيل بالكلية، وبعد 8 أشهر من التعارف والتقارب تمت مراسيم الزواج،
بكتابة العقد في مسجد موسكو سنة 1979، ثم عقد الزواج الرسمي 1980”.
أظن وثيقة الحب بين قلبين أقوى من عقد على الورق.


error: المحتوي محمي