استيقظ ولدي العزيز أحمد صباحاً وأدى صلاة الفجر، وأعدت له زوجتي الحليب والكورن فليكس، ثم استقل السيارة مع السائق ليوصله إلى المدرسة العالمية.
وصل المدرسة ورأى زملاءه وتحدث معهم قليلاً ثم بدأت الدراسة، دخل معلم الرياضيات وهو من جنوب أفريقيا وكان يتحدث الإنجليزية بطلاقة، وتعاقب المعلمون من أمريكا ودول أوروبا وغيرهم.
في الفسحة بين الحصص، جلس أحمد مع زملائه للحديث عن بطولة لعبة “الفورت نايت” في الليلة السابقة، وفي طريقهم إلى السيارة بعد انتهاء الدراسة، تحدث أحمد مع بعض الزملاء عن مسلسل أنيمي الياباني الذي يتابعه العديد منهم، وعن رواد اليوتيوب المشهورين وسنابتاهم الأخيرة.
عاد أحمد إلى المنزل ليؤدي صلاة الظهرين، ويتناول بعدها وجبة الغداء وإلى جانبه الآيباد وهو يشاهد مباراة كرة قدم حدثت البارحة، وحين انتهى من غدائه استراح قليلاً، وراجع بعدها بعض الدروس، واتفق مع زوجتي على طلب عشاء سفري من مطعم الهمبرغر القريب.
وبعد العشاء قال أحمد إن زميله قد اشترى قميصاً جديداً من ماركة بولو وحذاءً جديداً من ماركة أديداس، وإنه يحتاج إلى الذهاب إلى السوق في عطلة نهاية الأسبوع ليشتري قميصاً جديداً من ماركة توم تيلر، ثم سأل أحمد: وماذا عن عطلة الربيع لهذا العام؟ فزملاؤه سيسافرون إلى دبي أو الكويت أو لندن أو باريس، فما هو برنامج العائلة لهذه العطلة؟
جدول أحمد اليومي ووجبات طعامه وألعابه وتسليته تشبه إلى حد كبير حياة أي طفل في أوروبا وأمريكا، لذا فمجتمع جيل أحمد مستقبلاً هو شبيه بالمجتمع الغربي، إنه مجتمع العلم والعقل الذي حقق لنا الرفاه والطفرة الحضارية. ليس هناك ما يدعو للقلق، فأغلب البشر يسيرون في هذا الاتجاه، هكذا يرى البعض، أما البعض الآخر فله وجهة نظر أخرى!
العقل الموضوعي والعقل الآلي:
درس الكثير من الفلاسفة الغربيين مجتمعهم عبر العصور من عصر التنوير إلى عصر الحداثة ثم عصر ما بعد الحداثة، فماذا استنتجوا؟
أطلق العقل الأوربي ثورة علمية بدأت منذ عصر التنوير في القرن الخامس عشر وحتى عصرنا الحديث، أنتجت لنا الرفاهية وبحبوحة العيش والتطور الاقتصادي والمعيشي. هذا العقل أعتق نفسه من أغلال التحجر والتعسف الكنسي الذي حارب العلماء، وحلّق في فضاء الاكتشافات والاختراعات التي سخرت الطبيعة لخدمة البشرية، لقد أرسى ذلك على دعامتي الحرية والعقلانية.
لقد تحرر العقل الغربي الذاتي المنحاز سابقاً للأوهام إلى العقل الموضوعي المبني على العلوم والنظريات، وهكذا ولد مجتمع الحداثة المستند على العقل والعلم فحقّق التنمية والتطور والحياة الرغيدة.
لم يصمد العقل الموضوعي كثيراً، بل عاد وتغول ليصبح عقلاً آلياً منحازاً ولكن ليس لأوهام وطقوس الكنيسة، بل لأوهام وطقوس الشهوة والأنانية والاستهلاك وعبادة الثروة، فبدلاً من أن يسهر العقل ليحقق المزيد من الرفاه والسعادة للبشرية، انحرف ليصبح آلة تستخدم لصناعة الثروة والصراع عليها، فانطلق يصنع السلاح ويستعمر الأرض ويحرق الحرث والنسل في الحرب العالمية الأولى والثانية.
وحين خسر العالم عشرات الملايين من القتلى في الحروب العالمية، قرر فريق العقل الآلي أن يجرب طريقة أيسر وأذكى، فسخّر علوم النفس والاجتماع والتاريخ وغيرهم من العلوم الإنسانية ليهندس ثقافة الأفراد والمجتمعات فتصبح استهلاكية مادية تعيش للذة والمتعة وتغيب عنها أغلب قيم الإنسانية، وبذلك تحقق لمصانعه وشركاته أعلى العوائد والأرباح المادية.
الهندسة الثقافية:
طورت الهندسة الثقافية أدواتها كالإعلام ووسائل الاتصال الاجتماعي والمشاهير وصناع الرأي والماركات والفنون، ومارست أساليبها المختلفة كالصدمة والإبهار والترغيب والترهيب والإيحاء وغيرها.
الآن مثلاً تستخدم الهندسة الثقافية الفورت نايت ومسلسلات الأنيمي والماركات التجارية ومطاعم الهمبرغر وغيرها لتجعل من مجتمع ولدي العزيز أحمد جيلاً يلاحق الموضة ويستهلك الجديد ويتطلع إلى مستقبل يتناسب وهذه الثقافة.
هذه الهندسة تصنع لا وعي جمعياً يرسم 90% من حياة الأفراد ويجعلهم يختارون ويقررون لا شعورياً، ومن الصعب جداً ملاحقة هذا السيل المتجدد من أدوات وأساليب الهندسة الثقافية.
ما بعد الحداثة:
قبل حوالي أربعين عاماً، انطلقت الكثير من العقول المفكرة في الغرب لتتحدث عن مشكلة العقل وانحرافه من عقل التنوير والعلم الموضوعي في عصر النهضة قبل وأثناء القرن التاسع عشر إلى عقل السيطرة والاستغلال الآلي الذي حكم العالم في القرن العشرين ويحكمه حتى الآن. إنها ترى فشل العقل الآلي الساعي إلى تكديس الثروة في إدارة شؤون البشر وضمان سعادتهم. والسؤال هو إلى أين يتجه مجتمع ما بعد الحداثة؟
المهم الآن أن أنبه ولدي العزي أحمد وجيله الجديد إلى خطورة العقل الآلي الاستهلاكي وكيف يختلف جذرياً عن العقل العلمي الموضوعي الذي حقق لنا هذا التطور الحضاري.
ولدي العزيز: لا أستطيع منعك عن مشاهدة بعض هذه البرامج والتسلية ببعضها الآخر، كل ما أقوله إن من صمّم وصنع هذه المنتجات والأدوات لم ينتجها لسواد عينيك بل لغاية في نفس يعقوب.