أيها الحلم أدخلني مدخل صدق لحلمي المنتظر، أخاطب نفسي أثناء الحلم بأني أحلم حلمي، وأقص الحكايا للحالمين مثلي، المنطلقين للنضال، هم الرفاق، المؤتمنين على الأسرار.
كم تبارينا لقدح الأفكار وتلونا الأناشيد بقلب واحد، نحن الأنا والأنا نحن، ضميرنا واحد، دمنا يسري فيه تضحيات “تشي غيفارا”، ولما لا نكون، حلم يراودنا سفرا منذ أن كنا على مقاعد الدرس، شبان صف أول ثانوي، تلك هي لحظة بداية الحلم عام 73م.
ثلاث سنوات والحلم يكبر ويكبر عند الشاب عبدالستار الموسى. أدخل الفرح والسرور على قلوب والديه بعد نجاحه في الثانوية العامة، أشعرهم بالفخر والاعتزاز، قال لوالده: “أبي ساعدني بما تجود به من مال أريد أن أسافر إلى الشام، أقضي هناك بعضًا من أيام العطلة الصيفية وسوف أرجع لأتوجه للتسجيل في جامعة الرياض”، جاوبه والده: “تريد هدية النجاح، اطلب ودلل يا ستار، بس لا تنسانا من الدعاء والزيارة عند ضريح بطلة كربلاء”، “إن شاء الله يا يبا” قالت له والدته: “خذ بعد هالمقسوم، أودعه داخل السباچ، هذا ربحي من البسطة، واحفظ هالحرز خليه عندك، يا رب يا رب تيسر دربك يا ولدي، محفوظ بعين الله التي لا تنام، قلدناك الدعاء والزيارة”، طبع على هامتيهما قبلات حارة، وخرج مودعا أهل الدار، ولم ينس حبيبة القلب بنت عمته جميلة الجميلات، صافحها بمودة عامرة تفيض عشقا وغراما، وقال لها: “انتظريني فأنا قادم بعد شهر تقريبا لك كل الأمنيات يا أمل حياتي”. دمعت عيناها وجاوبته: “نعم بانتظارك يا حبيبي العمر، وسوف تراني عروسة لك ولن يملأ عيني سواك، أنت أنت ولا أحد غيرك في كل الدنيا يملأ عيني، القادم من أيامنا أفراح ومسرات، كأني أرى الأهل وشبان الفريق زافينك، وأمهاتنا والأخوات حاملين “صوان شموع”، وسنطرب لزغاريدهن “والجلوات” سنبني بيت أحلامنا معا، أنت لي وأنا لك”، قبّل يديها، برقت عيناه دمعًا وفاض قلبه بأطيب الهمسات وأعذب الكلمات، مع السلامة إلى اللقاء قريبًا.
حين وصل عاصمة الأمويين، كان كل شيء مرتب مسبقًا، حزمت الحقائب طيرانا إلى موسكو، ولحظة الوصول تبسم الحلم وتنفس الحالم والأحلام حلم المراد.
وعند الساحة الحمراء نثر بعضًا من العملات المعدنية، استجابة لأسطورة المكان المحقق للأحلام والأمنيات، ركض حافي القدمين على جرف نهر الفولغا، وتلى الأناشيد أمام ضريح قائد الثورة الزعيم لينين، واضعًا الأكاليل عند نصب الجندي المجهول، النصر تكلل، وحلم الوصول أنجز، والدراسة مطلب، والفن غاية الحلم والمنتهى، يجوب الدروب والصروح، والوقت غمرة فرح يمر بهجة كلمح البصر، يقف تحية سلام عند تماثيل قواد وملهمي ثورة أكتوبر، يتحمم برذاذ المطر سعادة وأنسًا، يغمض العينين رافعا هامته للسماء، تنساب عليه قطرات الماء بردًا ربيعيًا وسلامًا، شهور الصيف طوت وجسده يتدثر بروح النضال وعزم الشبيبة.
أما والداه فعلى النقيض من ذلك، ساورتهما الشكوك، وأفراد البيت لفتهم الظنون والعائلة حاصرهم القلق والترقب؟! بعد انقضاء شهور الإجازة، حشد من الأقارب والأنساب في بحث دائم عنه ليل نهار، الأم تفز عند أي طرقة على الباب لعل ستارًا يكون الطارق.
مر الوقت ثقيلًا، وزاد البكاء عويلًا، والتساؤلات أصداء تتكرر، كل ينادي: “من شاف ولد الموسى؟!”.
حان موعد افتتاح المدارس، ابتدأ عام دراسي جديد ولا من مجيب عن الغائب، دخل شتاء ومر وأقبل صيف آخر، ولا خبر عن الابن المسافر، مرت سنة وأتى عام آخر، والحيرة واليأس تلفان الأهل والعشيرة، الوالدان تعبا من البكاء والعويل، والأم لبست السواد حزنًا حتى في يوم العيد، تذرف الدموع مدرارًا كلما دخلت غرفته وتنادي: “وينك يا ستار وينك، أنت ميت لو حي” وتقبّل صوره المعلقة على الجدران، وتحتضن الخيال، وتردد: “وين رحت يا ستار عنا، ربيتك يا وليدي وساهرت عليك الليالي وسميت عليك أول وتالي، چنت أبغى أشوفك قدامي معرس زافينك على بت عمتك حبيبة قلبك، وهي من أشوفها تقطع چبدي، تنوح وتحتضني، كم مرة ومرة تسألني عنك، خايفة على لبنية كما تستجن على فراقك، آه يا قليبي، ستار يا وليدي وين رحت عني يا مهجتي وفادي…. ستار وينك يا ضو عيوني…”، بكاء ونحيب يهز أركان البيت، وأدعية عند كل صلاة.