الموسى ونتاليا سفر للحلم والمعنى (18)

امتدت حوارت وحورات لاستقراء لوحات معرض الزوجين البالغ عددها 35 عملًا؛ نتاليا 12 لوحة وابنتها أمينة لوحة واحدة، وعبدالستار 22 لوحة، ضمن معرضهما المشترك الذي أقيم مؤخرًا مطلع العام الهجري الجديد، ولم يتم التطرق لجميع الأعمال كل على حدة، وإنما شمل الحديث حول الكثير منها بنظرة عامة، وتم الاقتراب من بعضها بشيء من التفصيل، كحال آخر لوحة للفنان الموسى، والمعنونة بـ(الحقيقة)؛ والتي تتكون من ثلاثة رجال بملامح عربية يجاورن بعضهم البعض، يكتسون الثياب البيضاء، ويعتمرون الغترة والعقال، إنه هندام خليجي ولباس عربي قديم، وذلك من أجل إعطاء صبغة المحلية من الفنان وإسقاطها على واقع التفكير الجمعي، ورسالة اللوحة ليست محصورة ضمن نطاق معين بلا مفتوحة على  مجتمعات أخرى، بغض النظر عن الملامح أو نوع اللباس، فهو فقط تذليل للآخر ليقترب من هوية الفنان، والفنان ابن بيئته.

نرى مساحة لوحة (الحقيقة) تشغلها رؤوس ثلاث “زوم” على كتلة الوجوه، الشخص الأوسط على مستوى عال من المعالجة اللونية بإبراز ملامح الوجه بقوة تعبيرية، بخلاف الأيدي لم ترتق لمستوى اشتغال الوجوه، أتت بحس جرافيكي، اللوحة  تسلسلية رمزية، فالشخص الأول يمينا يغطي وجهه كاملا، والثالث يسارا يغطي نصف الوجه، وبينهما الشخص الأوسط وجهه كامل دون حجب، ينظر بتحديق حاد وجاد، عبر رسالة أراد الموسى إيصالها للمشاهد بقوله: “كل يبحث عن الحقيقة، وكل يراها من زاويته، شخص لا يريد أن يراها مطلقا فأغلق عينيه بالكامل، وآخر  يرى نصفها فحجب نصف وجهه مع عين واحدة، بينما الرجل الأوسط يظهر لنا وجهه كاملا، يبصر الحقيقة بكل وضوح؛ لأن عينيه مفتوحة باتساع وهي مرآة للعقل دون حجب”.

لوحة متوسطة الحجم، تكمن فكرتها عبر تجاور ثلاثة وجوه، كتف بكتف لكنهم متباعدي الفهم والرؤية وحتى إن كانوا ضمن بيئة واحدة أو العيش في بيت واحد، وهنا الطرح يتقاطع مع القول المأثور: “للحقيقة ألف وجه إنساني، ونبيل آخر”، وهنا اختصر الموضوع بالتركيز على ثلاثة وجوه لتقريب المعنى، والنبيل هو مركز السيادة المتمثل في الوجه الأوسط المبصر، فهو الذي يرى الحقيقة وحده دون غيره، أراد الفنان من خلال عمله توجيهنا إلى أن الحقيقة هي واضحة كالشمس لمن يحسن النظر إليها.

والسؤال الذي يفرض نفسه هو؛ هل صحيح الشخص الأوسط أبصرها حسب توصيف الفنان فهو الوحيد من يملك الحقيقة كاملة دون غيره؟ أم أن كل واحد تتمثل له الحقيقة ببصيرته حسب قناعاته وفهمه وإدراكه، ومسألة البصر في عمله الفني تعتبر في الأساس مجازا، ومقصده عين العقل.

ومن هنا يشتد الجدل حول فهمنا للحقيقة، كل يدعي وصلا بها لكن وكما يقال: “للحقيقة رأي آخر”، وبرغم ذلك يبقى التعبير عن الحقيقة مفتوح المدى لكل مبدع، بتعدد الصيغ والأشكال، والكل بحث ويبحث وسيستمر في البحث عن رؤى ومدلولات وإشارات ورموز كثيرة قد توصله للحقيقة عبر المجالات الإنسانية في الفكر والفن والدين والأدب والفلسفة.

إن اللوحة تكتسب أهميتها ومكانتها تفردا في الرؤية الفنية والرمزية، بوجود دلالة المعنى، فالعمل الفني لابد أن يكون في قالب جمالي؛ لأن الفن باعث على المتعة  البصرية وفي نفس الوقت متضمنا قيمة المعنى، والأجمل أن يقدم العمل الفني مزيدا من الجدل ويستثير فينا طرح  الأسئلة، ذلك ما تشي به الكثير من أعمال الفنان عبدالستار الموسى بالموازنة بين الشكل والمضمون، مؤكدًا: “أنطلق من لوحاتي من بعد فلسفي إنساني، والعملية عندي ليست رسما أو استعراضا لمهارة التلوين فقط، وهما ما أفنيت العمر في اكتسابهما، بل تقف وراءهما رسالة ذات مغزى، صوب المعنى، فمن خلال لوحاتي أعبر عن جزء من تفكيري ومن فهمي وقراءاتي ونظرتي للحياة”.


error: المحتوي محمي