الغفلة عن النفس

ليست كل قناعة حقيقة، فهناك الكثير من المسلمات البشرية ثبت عدم صحتها، فمركزية الأرض استمرت ألفي عام حتى ثبتت مركزية الشمس علميا. وهناك فكرة وجود الأثير الذي يملأ الفضاء والتي بقيت مسلمة حتى أثبت العلماء وجود الفراغ الكوني بين الأجرام السماوية قبل مائة عام فقط. ونظرية الجاذبية لنيوتن التي تم استبدالها أخيرا بنسبية آينشتين وانحناء نسيج الزمان والمكان. وهكذا يتطور العلم الطبيعي ناسفا الكثير من النظريات العلمية المشهورة بنظريات جديدة أكثر دقة وأصح تطبيقا.

لقد استطاع الإنسان تحقيق هذه الإنجازات العلمية في عالم الطبيعة وأثبتها علميا وهو يكتشف المزيد منها يوما بعد يوم. إنها رؤية الآيات في الآفاق، وليت الإنسان يكتشف الآيات في نفسه فيقترب من الحقيقة أكثر وأكثر، يوما بعد يوم!

يصنع الإنسان الإنجاز داخل نفسه، حيث تتفاعل الأفكار مع المشاعر الروحية والعاطفية بطريقة رائعة، ثم تتحقق الأفعال الخارجية، والتي تبقى أثرا خالدا في هذه الدنيا. ويستمر هذا التفاعل ما دمنا أحياء ويتواصل معه إنتاجنا لآثارنا الخالدة المادية وغير المادية حتى نفارق هذه الحياة. ولكن لماذا لا نشعر بعملية التفاعل المعقدة هذه؟

لماذا نغفل عن التفاعل الرهيب في أنفسنا؟

هناك الكثير من الحوادث التي تحيط بالإنسان دون أن يحس بها. بعض هذه الحوادث طبيعية. خذ مثلا: تتحرك الأرض حول محورها وحول الشمس ومع المجموعة الشمسية في مجرة درب التبانة بسرعة رهيبة جدا ونحن لا نحس بهذا. وحين نركب قطارا سريعا ونجلس على أريكة مريحة في عرباته، ننظر إلى الأشجار الثابتة وكأنها تتحرك في الاتجاه المعاكس بينما نحس أننا ثابتون. هكذا ننسب الأشياء كلها إلى وضعنا وسرعتنا، فمن يمشي بسرعتنا فهو ثابت مثلنا، ومن هو واقف على الأرض يبدو لنا وكأنه يسرع بالاتجاه المعاكس لنا.

وبالمثل نحن نعيش تحت تأثير تفاعل رهيب ومتواصل بين أفكارنا وأرواحنا وعواطفنا وأفعالنا، وحيث إن هذا التفاعل مستمر وغير منقطع ويحدث غالبا في العقل اللاواعي وحيث يحدث الإدراك ويصنع القرار فنحن غافلون عنه تماما. أما أين يحدث كل هذا؛ فذلك موضع خلاف بين فريقين، أحدهما يرى الدماغ كجهاز استقبال وإرسال فقط، أما الفكر والإدراك وصناعة القرار فخارج العالم المادي، بينما يرى الفريق الآخر أن الدماغ مركز لكل الفكر والإدراك وصناعة القرار.

وهكذا تسري هذه الغفلة على البشر حولنا، فلا يحسون بتفاعل أفكارهم ومشاعرهم داخل أنفسهم، ولا نحس نحن بتفاعل مشاعرهم وأفكارهم بل نراهم يعيشون كما نعيش.

هكذا تجري أكبر عملية تفاعل داخل أنفسنا فينتج عنها قرارات مصيرية وأفعال خارجية تغير مسار التاريخ ولا نكاد نحس أو نشعر بهذه العملية المعقدة، لأنها أصبحت طبيعة لنا. هذا بالضبط هو نفس شعورنا بالاستقرار وعدم الحركة بينما نستقل قطارا يسير بسرعة رهيبة لكنها غير متغيرة. نعم نرى المريض الذي فقد عقله فلا تتفاعل أفكاره وعواطفه ومشاعره الروحية وكأنه الشخص الواقف على رصيف المحطة ونحن نعبرها بالقطار السريع فنراه وكأنه هو الذي يتحرك بسرعة في الاتجاه المعاكس لنا، بينما نحسب أننا واقفون.

ما هو أثر الغفلة عن النفس وتفاعلاتها؟

إن الغفلة وعدم الإحساس بهذا التفاعل الرهيب يفقدنا الكثير من الفرص لصناعة المستقبل وإنجاز المزيد من التطور الحضاري. إنه يشبه إطفاء النور وأنت تمر على ممر جبلي فوق واد سحيق. فالغفلة عن النفس قد تقود إلى القرار الخاطئ، كما أن إطفاء النور قد يهوي بالماشي في الظلام إلى الوادي السحيق. إن الغفلة عن هذه الحركة المتفاعلة داخل نفوسنا تولد شعورا خاطئا بالسكينة فيما يشبه الموت السريري في قطار الحياة المنطلق بسرعة الضوء نحو المستقبل. أما كيف يحدث هذا التفاعل في نفوسنا؟ فهذا ما سنناقشه مستقبلا – إن شاء الله تعالى.


error: المحتوي محمي