
انتابتني حالة من التردد والخوف عندما عزمت أكتب مؤبناً ومعرفاً بالفقيد السعيد المربي الفاضل القارئ الأستاذ الشيخ إبراهيم بن مهدي المحاسنة (رحمه الله تعالى).
مردُ ذلك أمران، أولهما الخوف من اتهامي بالمبالغة والبعد عن الموضوعية، والآخر كون الفقيد ينتمي إلى جيل يسبقني، فلم أزامله في دراسة وعمل، فربما غابت عني بعض التفاصيل المهمة في شخصيته، ما قد يعرضني إلى بخسه وظلمه!
ولأن ما لا يدرك كله ، لا يترك جله، كما يقولون، فقد وجدتني أطلق العنان لخيالي وذكرياتي في محاولة لرسم صورة ولو كانت بعيدة ومحدودة تضيء بعض ملامح وعطاء وآثار هذا الفقيد السعيد (رحمه الله) وفاء لبعض حقه علينا.
ينتمي فقيدنا إلى عائلة “المحاسنة” أو “المُحَسِّن” نسبة إلى مهنة “التحسين” أو “التزيين” كما تسمى في بعض مناطق الخليج التي تعني حلاقة الشعر ، قبل تطور المهنة وتتعدد وتتنوع قصات الشعر.
عُرِفت الأسرة الطيبة بهذه الحرفة، التي لم تكن تقتصر آنذاك على الحلاقة، فكانت تضم إليها تجبير الكسور وختان الأطفال والتدليك وغيرها من بعض أشكال العلاجات الشعبية السائدة، وبرع عدد من رجالاتها ونسائها في المجال العلاجي.
سكنت الأسرة حي الديرة في تاروت، في بيت واحد كان يضمهم جميعا، إلى أن انتقلوا منه إلى منازل متعددة، وعادت ملكيته للوجيه المرحوم الحاج علي بن إبراهيم التاروتي.
أدركت بعض رجالات هذه الأسرة الكبار التي ينتمي إليها العلامة الحجة المقدس الشيخ علي بن يحيى المُحَسِن – طاب ثراه – من بينهم المرحوم الحاج منصور المحاسنة الطبيب الشعبي المعروف، والمرحوم الحاج مهدي ” أبو أحمد” والد الفقيد قارئ القرآن الكريم والسيرة الشريفة للمعصومين (عليهم السلام).
ما زلت أحتفظ في ذاكرتي ببعض ملامح ذلك الوجه النوراني والإطلالة الإيمانية المجللة بحياء وهدوء كانا يميزانه، ويضفيان على شخصيته مهابة ووقارا، ويكسبانه احتراما وتقديرًا من لدن الكبار والصغار، إضافة إلى نبرة صوتٍ خاشعة، ذات وهج روحي مميز يعطي لتلاوته لحناً حزيناً، وسمواً يسكن المكان ويملؤه روحانية وقداسة.
البيئة الصالحة والحياة الجادة والأجواء الإيمانية المحيطة بفقيدنا الغالي الشيخ إبراهيم المحاسنة (رحمه الله) ألقت بظلالها على تكوينه النفسي والعقلي، وألهمته الجد في السعي والمثابرة في طلب الرزق منذ نعومة أظفاره، وقادته إلى السمو الروحي والاستقامة والرشد في مسيرته العلمية والعملية.
طابع الحياة الجادة الذي كان يسود المجتمع آنذاك بشكل عام، المتأثر بالهدي الديني الذي يعطى للعمل الحرفي والتكسب بالتجارة قيمة دينية واجتماعية كبيرة، كما ورد في الأثر النبوي الشريف: “ما أكل أحد طعامًا خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده (عليه الصلاة والسلام)” كان محركاً لهِمم الكبار والصغار، وداعياً للاحتراف والعمل، ونبذ الفراغ خاصة في مواسم العطل والإجازات الطويلة.
ترك ذلك أثره الإيجابي في بناء شخصية الفقيد الغالي، كما الكثير من أبناء جيله، وطبعت حياته بالجدية والالتزام بمبادرات جادة قادته إلى العمل إبان صباه لبيع البقوليات التي كانت والدته تقوم بإعدادها في المنزل وتساعده في نقلها إلى حيث الموقع المخصص للبيع.
من الطبيعي أن ينعكس سلوك الوالدين ورعايتهما لأبنائهما في بناء شخصيتهم العلمية فيما بعد، فكان الأستاذ إبراهيم في الطليعة من المعلمين الوطنيين الذين تخرجوا في معهد إعداد المعلمين بالدمام قبل أن يكمل دراسته في الكلية المتوسطة ويحصل على دبلوم الرياضيات.
قضى الشطر الأكبر من حياته معلماً للرياضيات، متنقلاً في عدد من مدارس القطيف، كان آخرها مدرسة أم الحمام المتوسطة، حيث تخرج على يديه عدد كبير من الطلبة الذين ألهمهم حب العلم والمعرفة وغرس فيهم روح التفوق والتميز.
في الجانب الاجتماعي برزت مساهمات وحضور فاعل للفقيد في عدد من الأنشطة أبرزها تطوعه للعمل في جمعية تاروت الخيرية، وهو لا يزال بعدُ لدِن العود، فعمل مع الرعيل الأول من الكبار الذين أسسوا هذا الصرح الخيري الكبير؛ أمثال المرحوم الحاج عبد الله الصادق “أبو عبد السلام” والمرحوم الحاج محمد السني “أبو عبد الشهيد”، والمرحوم الحاج حسن أبو سرير وغيرهم.
البيئة الأسرية والاجتماعية التي احتضنته يافعاً وشاباً؛ ألهمته روحاً إيمانية ونفساً روحانياً وهمة قعساء.. أطلقها عطاءً في مجالات متنوعة، أثرت الحالة الإيمانية في مجتمعه الكبير، وأثمرت عن حزمة مشاريع وأنشطة اجتماعية وإيمانية مباركة..
فإلى جانب التزامه وجديته في أداء مسؤوليات عمله التربوي، نشط الفقيد في ممارسة العمل الديني والتبليغي، في مرحلة كان السائد فيها العزوف عن ممارسة مثل هذه الأنشطة خصوصاً في جيل الشباب الذي كان ينتمي إليه وقتئذٍ.
ترك الفقيد بصمات واضحة وبناءة حيث كان في طليعة قرّاء القرآن الكريم والسيرة الشريفة في المساجد والحسينيات ومجالس الذكر، وحاز قصب السبق وعُرف وطُلِب “وهو لا يزال في سن مبكرة جدا” لتلاوة القرآن الكريم في المجالس الليلية والنهارية في شهر رمضان المبارك، وتألق كقارئ للسيرة العطرة في شهري محرم وصفر ومناسبات أهل البيت “ع” واشتهر في التبليغ والإرشاد الديني والثقافي في مواسم الحج والعمرة والزيارة.
وعندما بدأ البناء في الأحياء الجديدة خارج مسورة ديرة تاروت، انتقل إلى منزله الحالي في حي المناخ، وبادر مع مجموعة من الخيرين الصلحاء بشراء أرض ووقفها لتكون مسجداً للحي الجديد الذي عرف فيما بعد بمسجد الإمام الحسين (عليه السلام).
استثمر كل طاقاته وإمكاناته وخبراته في تحويل هذا المسجد إلى مركز إشعاع ديني وثقافي، يعج بالأنشطة المختلفة واهتم بتنشيط المواسم العبادية والمراسم الدينية المختلفة، فعمل على استقطاب إمام لصلاة الجماعة وخطباء للمأتم الحسيني وإحياء المناسبات وإقامة الاحتفالات الدينية والندوات الثقافية، إضافة إلى دوره الريادي في رفد أنشطة المسجد وسد احتياجاته ودعمه مادياً ومعنوياً بالتضامن مع رفقاء دربه وأصدقائه جيران المسجد، إضافة إلى التزامه بقراءة القرآن والسيرة والتعقيب والزيارات وإحياء ليالي القدر وغيرها.
الجانب الروحي في شخصية الفقيدالسعيد شديد السطوع وواضح التألق في أوساط المؤمنين الملتزمين، خصوصاً ما يرتبط بصلاة الجماعة والسعي إليها حتى قبل وجودها بهذه الكثرة في مساجد جزيرة تاروت.
كان يقود قافلة رفقاء وأصدقاء صلاة الجماعة للذهاب إليها حيث تقام، لم يمنعه عنها حرٌ ولا قرٌ، ولا صحةٌ ولا مرض، وأصبح فيما بعد إمامًا في عدد المساجد نائباً عن الإمام الراتب أو معاوناً له، فكان يصلي الفجر في مسجد المصطفى بالتركية، وينوب عن الإمام في مسجد الإمام الباقر “ع” بحي الشمال.
ظل فقيدنا ملازماً وملتزماً بصلاة الجماعة صديقا وفياً، ومحباً مخلصاً، وعاشقاً متيماً، يدعو إليها بلسانه صادقا، ويسعى بجوارحه إلى أوطان إقامتها طائعا، حتى أنهكته العلة وحالت بينه وبينها، فكان ذلك مدعاة للتعجيل بالرحيل، فعرج بروحه لمعانقتها التي لم تستطع لفراقها صبرا.
عشقان كانا ينزعان بروحه ويحفزانه على الاستمرار في الحياة، أولهما الأجواء العبادية المزودة للتقوى، والآخر الرغبة الملحة في الاستزادة من الكمالات المعنوية عن طريق طلب العلم الذي طبع حياته في كل مراحلها “ومن طلب العلا سهر الليالي”.
لم ترضَ له نفسه الوثّابة للمجد التوّاقة للكمال نعمة دون أخرى، فشمر عن ساعد الجد والاجتهاد والتحق بالدراسة الحوزوية بعد تقاعده من العمل الوظيفي، وهو إذ ذاك في مرحلة عمرية يراها الكثيرون فرصة للتخلي عن الالتزامات والخلود للراحة والركون للدعة، فكان بسلوكه هذا داعيةَ خيرٍ لآخرين من أصدقائه وأقرانه وملهما ومشجعا لمن هم دون عمره، على الانخراط في هذا الطريق النوراني واستسهال الصعب لإدراك المنى والوصول للغاية.
إن سيرة ومسيرة هذا الفقيد مدعاة للافتخار والاقتداء والتأسي، كما أنها توثق لمرحلة اجتماعية مهمة تستجلي دور الرواد الأوائل في العمل الديني والاجتماعي، وتلقي الضوء على ما تحملوه من أجل أن يصلنا هذا الضياء الساطع، وما نحن فيه وعليه من نعمة الطاعة لله (سبحانه وتعالى) والولاء والمحبة لرسوله وأوليائه (عليهم السلام)، وتُحملنا مسؤلية الحفاظ على ما خلفوه لنا من مكتسبات ومنجزات.
رحم الله الفقيد السعيد، وألهم أهله وذويه وعارفيه ومحبيه الصبر والعزاء… وإنّا لله وإنّا إليهِ راجِعْونَ.