ساف.. رائحة الطين

عندما تمر حول ما تبقى من بيوت الأجداد وتتمعن في أزقتها الضيقة وزخرفاتها الجصيّة وأبوابها الخشبية، تستنشق منها عبق التاريخ ورائحة الطين النقيّة التي تُشعل في قلبك المشاعر والانتماء، تشم منها رائحة الحب والحنين، ورائحة الطيب والنفوس الطيبة.

تُقبل فيها “جدار ليلى!! وتلوذ بها لوذ الحمائم بين الماء والطينِ!!”.

صورة الحنين إلى الماضي تُبهج القلب وتثير الشجن والشوق ويسمو بها الوجدان .

القطيف كانت ولا تزال بحاجة لمن يُلملم إرثها الحضاري والفكري والثقافي المتجذر في أعماق التاريخ وفي عروق أبنائها.

“روعة الماضي وجلال القِدم” نفضت الغبار وجددت الذاكرة وأنارت إرث بعض تُراثنا العريق الذي شَممنا من نوافذه المعتقة نسيم الرياحين، وأحيت بداخلنا شغف التعرف على تفاصيل جمال البيت القطيفي الذي ينبض له القلب عشقًا وانتماءً للمكان المُختلط بطينة الأجداد.

نقوشات وأقواس ومصابيح ومآذن تستذكر أطلال الماضي المتدلية من شُرفات الحنين التي تفوح منها رائحة النخل والبحر.

كم حلمنا بتوثيق كل تفاصيل البيوت القطيفية، بدقة منذ القدم قبل فقدان أغلب التراث العمراني جراء النمو الاجتماعي وتنمية المدن، وها هي الجهود الفردية البسيطة التي وثقت جزءًا من تلك الحقبة قد أصبحت اليوم ذات قيمة معنوية كبيرة في نفوس أهالي القطيف حيث نرى تفاعلًا وانتشارًا واسعًا عندما ينشر أحدهم بين فترة وأخرى ما بحوزته من صور أو فيديو لمعالم القطيف وحاراتها القديمة التي لم يعش ويشاهد كل تفاصيل حقبتها مواليد ١٣٩٠هـ وما بعدها، حيث بداية تنفيذ خطط التنمية الخمسية في المملكة.

ومنها بدأ شق الطرق وتوسعة الشوارع وإنشاء مباني الخدمات على حساب البيوت التراثية وبساتين النخيل في القطيف.

الأستاذ إسماعيل هجلس من خلال كتابه “روعة الماضي وجلال القدم” أضاء شمعة أنارت لنا مشعل الأزقة الضيقة والأبواب المكفهرة التي حفظت الذاكرة وعرفّت الأجيال ببعض تراثهم العمراني والإنساني الذي يغرس في نفوسهم قيمة هذا الإرث الذي لا يُقدر بثمن، وما زالت الفرصة سانحة لجميع الفنانين والمبدعين بمختلف تخصصاتهم ليبذلوا المزيد من الجهود في سبيل توثيق وإبراز ما تبقى من تراث وآثار وبيئة، لنحافظ على النتاج الإبداعي الإنساني ونقله من الماضي إلى الحاضر ثم إلى المستقبل من أجل حفظه من النسيان والضياع.

كما نأمل من المسؤولين في الجهات المعنية في هيئة السياحة والآثار والبلدية والجهات ذات العلاقة التركيز على الموازنة بين مشاريع التنمية المستدامة في المناطق التراثية وبين الحفاظ على البيئة التاريخية لتلك المناطق، بالإضافة لكونها مصدرًا سياحيًا هامًا وفي ترابها رائحة الأجداد وعبق الماضي الذي نشمه كلما مررنا في الأزقة العتيقة.


error: المحتوي محمي